جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2023/04/26
تخيل نفسك تسير يوما في الشارع، وفجأة ظهر لك كائن يسير كالقطة ويصدر مواء القطة ويقفز كالقطة، لكنه لا يشبهها، فما هو الاسم الذي يمكنك أن تطلقه عليه.
هذا باختصار قصة ما بات يعرف عالميا باسم “بنوك الظل”، مؤسسات مالية تقوم بما تقوم به البنوك من أعمال، المودعون يودعون أموالهم لديها، ويتلقون في المقابل فائدة، ويمكنك الاقتراض منها وبالطبع إعادة الأموال مع الفائدة المتفق عليها، كما تقوم باستثمار أموال المودعين في شراء أصول كالأسهم والسندات.
ومع هذا، لا ينظم هذا القطاع بذات الطريقة التي ينظم بها القطاع المصرفي التقليدي، ولا يخضع للأطر والرقابة التنظيمية التي تخضع لها البنوك، والأخطر أنه في لحظات الأزمات والانهيار والإفلاس، فإن أموال المودعين يمكن أن تذهب أدراج الرياح، لأن البنك المركزي ليس ملزما بالتدخل لإنقاذها.
كما أن تلك المؤسسات المالية لا يمكنها الاقتراض حتى في حالة الطوارئ من البنك المركزي، كما هو حال البنوك التقليدية، كما أنه لا يتم تغطية الودائع المالية من خلال التأمين عليها، أي باختصار إنها مؤسسات مالية تعمل كالبنوك لكنها في “الظل”.
في 2007 ألقى بول ماكولي، الاقتصادي الأمريكي، خطابا في الندوة المالية السنوية التي يستضيفها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في مدينة كانساس، وفي كلمته التي كان يشرح فيها طبيعة تلك المؤسسات المالية التي تعمل في “الظل”، استخدم ولأول مرة في تاريخ علم الاقتصاد مصطلح “بنوك الظل”.
وبالطبع كان حديث ماكولي عن بنوك الظل ينصب على المؤسسات الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، ليكتشف الحضور لاحقا أن تلك الظاهرة ممتدة على طول بلدان الكرة الأرضية وعرضها.
وأخيرا حذر صندوق النقد العالمي من المخاطر التي تحيق بالنظام المالي العالمي من القوة المتزايدة لبنوك الظل التي تحتفظ بنحو 50 في المائة من إجمالي الأصول المالية في العالم، وذلك في الوقت الذي تعاني فيه مديونية مرتفعة، واحتمال وقوعها في فجوة السيولة، نظرا لارتفاع أسعار الفائدة، وكل ذلك في وقت لا تحظى به تلك المؤسسات المالية بالإشراف التنظيمي أو الرقابي اللازم، كما أنها لا تتمتع بأي رأسمال قادر على امتصاص الخسائر التي قد تتعرض لها.
وعلى الرغم من أن مصطلح بنوك الظل وأحيانا “الظل المصرفي” يبدو من وجهة نظر كثير من الخبراء مشؤوما إلى حد كبير، فإن عديدا من شركات السمسرة والشركات الاستثمارية المعروفة تنخرط في أنشطة الظل المصرفي، ويمتد التعريف ليشمل مجموعة واسعة من المؤسسات والوسطاء الماليين مثل صناديق التحوط، وصناديق الأسهم الخاصة، ومقرضي الرهن العقاري، حتى البنوك الاستثمارية الكبرى، فمصرف ليمان براذرز الذي فجر الأزمة المالية 2008 كان ضمن مجموعة بنوك الظل.
من جانبه، يرى الخبير المصرفي مايكل مينسا أنه من المفارقات الغريبة أن بنوك الظل التي كان بعضها مسؤولا عن الأزمة المالية العالمية عام 2008، كانت المستفيد الأكبر من الأزمة والتدابير التي اتخذتها البنوك المركزية حول العالم لتفادي تكرارها، وها هو صندوق النقد الدولي يحذر من تكرار الأزمة المالية العالمية مرة أخرى بسبب بنوك الظل أيضا.
وقال مينسا لـ”الاقتصادية” إنه “في الواقع بنوك الظل أحد الإخفاقات العديدة للنظام المالي العالمي قبل وبعد أزمة 2008، وتلك الأزمة بمنزلة تذكير بالغ الأهمية بما يمكن لنظام مالي جامح أن يلحق بالاقتصاد ورفاهية الناس، فنتيجة لتلك الأزمة وجدت البنوك التقليدية نفسها تحت رقابة تنظيمية صارمة من البنوك المركزية، ما أدى إلى انكماش طويل الأمد في أنشطتها الإقراضية، ومع تشديد السلطات المالية مواقفها من إقراض البنوك، شددت البنوك التقليدية مواقفها من المتقدمين إليها للحصول على القروض أو الائتمان، وأدت الضمانات الأكثر صرامة التي تطلبها البنوك للإقراض إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مصادر تمويل أخرى، وبالتالي نمت المؤسسات غير المصرفية التي تحيا في “الظل” حيث كانت قادرة على العمل خارج قيود اللوائح المصرفية”.
وأضاف قائلا “أفلت نظام الظل المصرفي من التنظيم في المقام الأول لأنه على عكس البنوك التقليدية والاتحادات الائتمانية، لا يسمح له بتلقي الودائع من المودعين تحت الطلب التقليدي أي لا يوجد لديه أنظمة حساب جار أو حساب توفير مثل البنوك التقليدية، ونظرا لأنه لا يوجد لديه هذا النوع من الحسابات البنكية، فإنه نجح في أن يكون خارج نظام الرقابة التقليدي من البنوك المركزية”.
وبالفعل، فإن الخبراء يجمعون على أنه نتيجة قدرة عديد من مؤسسات الظل تلك على تجنب التدقيق من قبل السلطات المالية المركزية، فقد تمكنت من إنشاء أدوات مالية مكنتها من المغامرة أو المجازفة بأموال المستثمرين لتحقيق أرباح مرتفعة، دون أن تكون ملزمة بالاحتفاظ باحتياطيات مالية يمكنها أن تغطي الأموال المستثمرة في حالة الخسارة، وهو ما تطلبه البنوك المركزية عادة من البنوك التقليدية.
ولا ينفي ويلسي كينسينجتون المحلل المالي في بنك إنجلترا، صحة الأسباب المشار إليها أعلاه بشأن انتعاش قطاع بنوك الظل، لكنه يرى أيضا أن ذلك يعود إلى ضعف مدخرات الطبقة المتوسطة في البلدان المتقدمة، ما يدفعها إلى البحث عن فرص استثمارية مربحة وأسعار فائدة أعلى مما تقدمها البنوك التقليدية.
وقال الاقتصادية” إنه “مع الارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة تقلصت مدخرات الطبقة المتوسطة التي لم تعد تشعر بالأمان تجاه المستقبل في ظل أسعار الفائدة المنخفضة التي سادت بعد الأزمة المالية العالمية 2008 حتى وقت قريب، ولذلك بحثت دائما عن قنوات استثمار تضمن لها عوائد مستقبلية أعلى من أسعار الفائدة البنكية، التي كانت تقارب الصفر، وهذا مثل فرصة ذهبية لبنوك الظل لجذب تلك الأموال وتعزيز موقعها في النظام المالي العالمي”.
ووفقا لمجلس الاستقرار المالي وهي الهيئة الدولية المسؤولة عن مراقبة وتقديم توصيات بشأن النظام المالي العالمي، التي أسست 2009، فإن بنوك الظل نمت 9 في المائة تقريبا 2021، وهي نسبة أعلى بكثير من متوسط نموها السنوي البالغ 6.6 في المائة خلال الأعوام الخمسة السابقة، وأنشئ جزء كبير من هذا النمو من تدفق الأموال على صناديق الاستثمار مع تعافي الاقتصاد العالمي، ومع امتلاك بنوك الظل نحو 50 في المائة من الأصول المالية العالمية في جميع أنحاء العالم، قد لا يكون مفاجئا أن يكون لدى أكبر اقتصاديين في العالم الولايات المتحدة والصين الجزء الأكبر من بنوك الظل.
هنا، ذكرت الاقتصادية” الدكتورة فريا ليدر الاستشارية في برامج دعم الاستقرار المالي التابعة للاتحاد الأوروبي، أنه “في 2019 أفاد مجلس الاستقرار المالي بأن بنوك الظل في الولايات المتحدة لديها الحصة الأكبر من الأصول المالية التي تمتلكها تلك المؤسسات المالية عبر العالم، وقدرت حينها بنحو 15 تريليون دولار”.
وأضافت أن “المنظمين الماليين في الصين أفادوا في العام نفسه بأن نظام الظل المصرفي استحوذ على أصول بقيمة 13 تريليون دولار تقريبا، أي ما يعادل 86 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد أو 29 في المائة من إجمالي الأصول المصرفية، وفي الاتحاد الأوروبي تمتلك مؤسسات الظل المصرفية أغلبية الأصول الإجمالية، بينما تضاهي بنوك الظل في الولايات المتحدة حاليا البنوك التقليدية في أرقام الإقراض، وفي المملكة المتحدة تقوم تلك البنوك بما يقرب من نصف جميع أنشطة الإقراض”.
وتستدرك قائلة “خدمات الظل المصرفية نمت بسرعة في عديد من الاقتصادات الناشئة أيضا، حيث لا تتعامل الشركات الصغيرة مع البنوك، ففي المكسيك على سبيل المثال أدى الحجم الصغير للقطاع المصرفي والثقة المحدودة في قدرته على تلبية احتياجات الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى وجود حاجة إلى مصادر تمويل بديلة.
وفي العام الماضي انفجرت الفقاعة المكسيكية، حيث تعثرت ثلاثة من بنوك الظل، وبدأت في السقوط ونتيجة للتداخل بينها وبين عديد من البنوك التقليدية والمؤسسات المالية الأخرى، فإن الأزمة أخذت في الاتساع، وكشفت التحقيقات أن بنوك الظل الثلاثة المفلسة أقرضت نحو ستة مليارات دولار، إضافة إلى إصدار نحو أربعة مليارات دولار من السندات غير المضمونة وديون لبنوك أجنبية، وما حدث في المكسيك يمكن أن يتكرر بسهولة في الهند أو نيجيريا أو البرازيل أو أي اقتصاد ناشئ”.
وبطبيعة الحال لا يخلو الأمر من مدافعين عن بنوك الظل، وبينهم الدكتور إل. دي. هاري أستاذ المالية العامة في جامعة لندن، الذي يرى أن هناك عديدا من الإيجابيات المالية لبنوك الظل، وأن المشكلات التي تنجم عنها لا تعود إلى أدائها، وإنما إلى عدم تنظيم هذا القطاع وتلك مسؤولية السلطات المالية وليس بنوك الظل.
وأوضح الاقتصادية” أن “بنوك الظل توفر للمقترضين مجموعة واسعة من الخيارات، وعلى الرغم من أن قلة من تلك المؤسسات أكبر من أن تفشل، إلا أن الفشل لا ينال منها بمفردها، فالبنوك التقليدية تفشل وتفلس أيضا، وسيكون من الصعب للغاية على النظام الرأسمالي أن يعمل إذا كانت البنوك هي المصدر الوحيد لرأس المال، كما أن كثيرا من البنوك خاصة في الاقتصادات المتقدمة تجيد الإقراض العقاري، بينما تجد صعوبة في توفير التدفق النقدي لتمويل الأعمال، وهنا يأتي دور بنوك الظل”.
إلا أن بنوك الظل ازدادت تعقيدا وتداخلا مع بعضها بعضا، ومع النظام المالي التقليدي ممثلا في القطاع البنكي، وهذا يجعل من الصعب تميز طبيعة وحجم المخاطر الكامنة، وقد عمل نظام بنوك الظل بشكل جيد منذ 2008 حتى حقبة ما قبل الجائحة، حيث أسعار الفائدة منخفضة والسيولة محدودة نتيجة القيود على عمليات الإقراض، لكن في الأوضاع الراهنة، حيث ارتفعت أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، فإن الضمانات التي تطالب بها بنوك الظل لمنح القروض لا تقل تشددا عما تطالب به البنوك، بحيث تراجعت المرونة المالية التي ميزتها، مقارنة بالبنوك التقليدية.
في الوقت الراهن ربما يأتي التحدي الأكبر الذي يواجه النظام المالي العالمي في تعامله مع بنوك الظل من غياب الشفافية التي تجعل من الصعب تحديد المصادر المحتملة للمخاطر، التي يمكن أن يتعرض لها قطاع “الظل”، ففي البلدان المتقدمة يواجه القطاع العقاري أوضاعا محفوفة بالمخاطر، خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة، وحتى في الصين، فإن مشكلة بنوك الظل تلقي بظلال غير مريحة على الوضع الاقتصادي، فالحكومة الصينية عززت النمو من خلال التحفيز المالي والائتمان السهل، وتم توجيه الاقتصاد إلى بنوك الظل التي تعد مرتبطة بالبنوك التقليدية، وعلى الرغم من اكتساب الصين خبرة كبيرة في كيفية التعامل مع هذا القطاع في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي عانتها عام 2015، فإن أبرز ملامح التجربة الصينية، التي يبدو أن البلدان الغربية في طريقها إلى تطبيقها تتعلق بتقيد قدرات الإقراض لبنوك الظل.
بدوره، بين الدكتور ستانلي بلاك، أستاذ الاقتصاد الكلي في مدرسة لندن للاقتصاد، أن “هناك اتجاها عاما في الوقت الراهن بين الخبراء والاقتصاديين بأن غيوم مظلمة تتجمع فوق النظام المالي العالمي، والتحذيرات التي أصدرها صندوق النقد الدولي أخيرا بشأن بنوك الظل تشير في جوهرها إلى أننا لا نمتلك فهما أو سيطرة حقيقية على هذا القطاع، فالظلال والشفافية لا يلتقيان، ومن ثم لا نعرف على وجه التحديد ما الخطوات التصحيحية التي يجب اتخاذها لإصلاح هذا القطاع، خاصة في ظل التداعيات الاقتصادية والمالية التي يعانيها الاقتصاد الدولي نتيجة حرب أوكرانيا، لكن لا شك أن ترشيد القدرة الائتمانية لبنوك الظل بات خطوة ضرورية في ظل المخاطر المالية العالمية”.
لا أحد يعلم على وجه اليقين ما الحدث الذي يمكن أن يرفع الغطاء عن بنوك الظل، ولا أحد يعلم بشكل محدد ما طبيعة التدابير الواجب اتخاذها لتنظيم هذا القطاع دون إضعاف القدرة الائتمانية للنظام المالي العالمي، لكن الأمر الذي يبدو أن أغلب الخبراء قد باتوا الآن أكثر اقتناعا به أكثر من أي وقت مضى هو أن انهيار بنوك الظل إذا ما حدث قد يترك علامة غائرة في وجه النظام المالي الدولي.