جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2023/09/30
في الآونة الأخيرة بات الحديث عن المصاعب التي يواجهها الاقتصاد الصيني منذ العام الماضي والتي تصاعدت نسبيا هذا العام، حديثا شبه يومي في وسائل الإعلام الدولية، وسط تباين في التقديرات لحجم المشكلة ومداها وتأثيرها في مستقبل الصين الاقتصادي.
لكن التركيز الإعلامي الغربي على الأوضاع الاقتصادية الصينية، حمل في جزء كبير منه درجة من درجات التشفي والابتهاج بأن التجربة التي استمرت 40 عاما تقريبا تنتقل بهم من نجاح إلى آخر بلا انقطاع، بحيث باتت نموذجا ملهما لكثير من الدول بمعدلات نموها الاقتصادي غير المسبوق، وإنجازاتها المتنوعة والمتعددة، ومن بينها إخراج 800 مليون شخص من دائرة “الفقر المدقع”، تقف اليوم أمام منعطف تاريخي.
وفي حقيقة الأمر، فإن ما يضع التجربة الصينية برمتها عند منعطف فارق أن أزمتها الاقتصادية الحالية تترافق مع ملامح أولية لأزمة مالية تتطلب ضرورة اتخاذ إجراءات وتدابير عاجلة لمعالجتها.
فالمقرضون في الصين يواجهون رياحا معاكسة مثل انخفاض أسعار الفائدة على الإقراض، في الوقت الذي يتزايد فيه الضغط الحكومي لدعم الاقتصاد الذي تأثر بضعف الطلب الداخلي والخارجي على حد سواء، إضافة إلى مشكلة الديون المعدومة المتعلقة بمطوري العقارات.
يقول لـ”الاقتصادية” الدكتور جاك ماتيوس أستاذ الأنظمة البنكية في جامعة لندن: “هناك مشكلة مالية صينية تلوح في الأفق لكنها لا تزال تحت السيطرة حتى الآن، إذ سجل اثنان من أكبر البنوك الصينية نموا بطيئا في الأرباح، وربما يكون هذا الأمر معتادا لكن توقيته ربما يؤدي إلى تضخيم تداعياته، حيث جاء في وقت يعاني فيه الاقتصاد الصيني الذي يبدو غير قادر على التعافي التام من تداعيات جائحة كورونا، والضغوط الاقتصادية العالمية نتيجة الحرب في أوكرانيا”.
ويضيف: “أكبر بنك مقرض في البلاد البنك الصناعي التجاري الصيني المحدود حقق في النصف الأول من العام أرباحا 1.2 في المائة مقارنة بالعام الماضي، أما بنك الصين فلم يحقق سوى 0.78 في المائة، كما أن بيانات البنوك الصينية تشهد انكماشا في صافي هوامش الربح”.
مع هذا يرى كثير من الخبراء أن القطاع المصرفي الصيني سيستطيع أن يتغلب على ما يواجه من مشكلات أو يحد من تأثيرها إلى حد كبير، لكن المشكلة التي تمثل تحديا رئيسا له تكمن فيما يعرف ببنوك الظل التي تبلغ قيمتها ثلاثة تريليونات دولار.
فنظرا إلى انخفاض أسعار الفائدة على الودائع المصرفية لدى البنوك المدعومة من الحكومة، فإن أغلبية ملحوظة من المودعين فضلوا الاعتماد على الصناديق الاستئمانية الأخرى مثل صناديق المعاشات أو التأمين التي تدفع أسعار فائدة تراوح ما بين 6 و8 في المائة، ما جعلها تتمتع بجاذبية خاصة لدى المودعين.
مصارف الظل في أوروبا وآسيا تقرض نظيرتها الصينية معتمدة على قوة الاقتصاد
وساعد الانتعاش الاقتصادي لأعوام طويلة على أن تتمتع بنوك الظل بسمعة طيبة كأدوات استثمار آمنة، لكن الآن ومع تراجع معدلات النمو الاقتصادي فإن عددا من تلك الصناديق الاسئتمانية أعلنت فشلها وعدم قدرتها على الاستمرار، بينما أعلن البعض الآخر تكبده خسائر مالية ضخمة، وهذا يجعل مليارات الدولارات من أموال المودعين في بنوك الظل تحت رحمة الأداء الاقتصادي.
ولكن بعض الخبراء المصرفيين يحذرون من أن سقوط الصناديق الاستئمانية الصينية سيؤدي إلى ما يعرف بتأثير الدومينو الذي سيمتد عبر الاقتصاد العالمي، فبنوك الظل لا تعد مشكلة صينية وحسب، بل هي مشكلة عالمية بامتياز.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية”، الخبير المصرفي جيرمي جوف: “الصناديق الاستئمانية موجودة في جميع أنحاء العالم، وتنتشر بصورة أكبر في القارة الأوروبية، كما أن كبرى بنوك الظل تتداخل مع بعضها بعضا في كثير من الاستثمارات والخدمات المالية، وبنوك الظل خارج الصين في الأغلب ما تقرض نظيرتها الصينية معتمدة في ذلك على قوة الاقتصاد الصيني، ومن ثم ما يحدث في الصين يحمل مخاطر انتقال العدوى إلى كثير من الدول الحليفة لأوروبا في منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، وإذا اتسع نطاق المخاطر، فإن العدوى حتما ستمتد إلى أوروبا، كما يرجح أن تمتد إلى الولايات المتحدة وإن كان بدرجة أقل”.
ويختصر جيرمي جوف المشه بالقول: “العولمة وما أوجدته من تداخل اقتصادي ومالي بين الاقتصادات الكبرى يعني أن الصين لن تغرق بمفردها، بل ستأخذ جزءا كبيرا من النظام المالي العالمي معها”.
حتى الآن لم تشهد الصين مظاهر مشابهة لما حدث في الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الأوروبي في الأزمة المالية العالمية 2008، حينما أسرعت الحكومات بضخ تريليونات من الدولارات والاسترليني واليورو والين في نظامها المصرفي لإنقاذه من خطر الإفلاس التام، إلى الحد الذي تخلى فيه الاقتصاد البريطاني والأوروبي عن إحدى القواعد الرئيسة في النظام الرأسمالي عندما قامت الحكومات حينها بالسيطرة على إدارة البنوك فيما يمكن وصفه بعملية تأميم مؤقتة لضمان ودائع المودعين.
لكن عدم تدخل الحكومة الصينية لا يعني أن الأزمة بسيطة أو أنها ستمر مرور الكرام، فالاحتجاجات والغضب بين المودعين في تزايد، ما دفع بوزارة الداخلية إلى نشر مزيد من قوات الأمن أمام المصارف تحسبا إلى ما لا تحمد عقباه.
من المؤكد بالنسبة إلى كثير من المتابعين لتفاصيل المنظومة المالية للصين، أنه لا يزال هناك طريق طويل قبل أن تشهد الصين هزات بنكية على غرار ما حدث لبنك “سيلكون فالي” الأمريكي الذي أعلن إفلاسه، أو ما شهدته سويسرا من إفلاس بنك كريدي سويس، وقيام البنك المركزي السويسري بما يشبه إجبار بنك “يو بي إس” على التدخل للاستحواذ على البنك المفلس لمنع الأزمة من التمدد إلى بنوك أخرى، وبما يشل الاقتصاد السويسري ويهدد الوضع المالي للبلاد، إلا أن هذا لا ينفي أن الصين في حاجة إلى معالجة جذرية وسريعة لنظامها المصرفي، وضرورة تبسيط الرقابة المالية بما يجعل النظام المالي أكثر كفاءة وشفافية.
نظام الصين المصرفي ضخم .. أصوله 50 تريليون دولار
تتمتع الصين بنظام مصرفي ضخم تبلغ أصوله 50 تريليون دولار أو ما يقارب 300 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما لا تتجاوز تلك النسبة في الولايات المتحدة 75 في المائة. وتهيمن أربعة بنوك كبيرة مملوكة للدولة على المشهد المصرفي في الصين، تلك البنوك هي البنك الصناعي التجاري الصيني، وبنك التعمير الصيني، والبنك الزراعي الصيني، وبنك الصين، وحتى بدايات 2022 كانت البنوك الأربعة تتمتع بمعايير أداء ناجح وفقا للمعايير الدولية والمقاييس التي تتبعها البنوك الأمريكية، بل كانت تتفوق على البنوك الأوروبية في بعض تلك المعايير.
لكن نقطة الضعف في النظام المصرفي الصيني لم تكن عند هؤلاء الأربعة الكبار، وإنما في أربعة آلاف بنك إقليمي صغير ومتوسط الحجم تبلغ أصولها مجتمعة نحو 12 تريليون دولار، أي أقل بقليل من ربع إجمالي أصول النظام المصرفي الصيني، تلك الأعداد الضخمة من البنوك كان كثير منها يتبع نماذج أعمال معيبة، إلا أن النمو الاقتصادي المرتفع كان يغطي على جوانب الخلل.
وأبرز جوانب الخلل أن رأس المال في كثير من البنوك الصغيرة كان محدودا، ولممارسة نشاطها وتجنب الفشل كانت تعتمد على الاقتراض من بنوك أخرى بأسعار فائدة مرتفعة، على أن تقوم بإقراض مؤسسات صغيرة أو متوسطة الحجم تعاني مخاطر ائتمانية مرتفعة وتكاليف عالية بأسعار فائدة مرافعة للغاية، ما جعل القروض المتعثرة والفساد الإداري والمالي وباء ابتلت به كثير من البنوك الصينية خاصة في البلدات الصغيرة والقرى النائية، وكثيرا ما تدخل البنك المركزي الصيني لحل مشكلات تلك البنوك بشكل جزئي دون أن يضع استراتيجية شاملة لعدم تكرار تلك المشكلة من حين إلى آخر.
ويرصد الباحث في الاقتصاد الصيني جيمس كليفرلي جانبا آخر من مشكلة البنوك الصينية الصغيرة التي أدت إلى الوضع المالي غير المريح حاليا الذي تمر به البلاد.
ويقول لـ”الاقتصادية”: “إن كثيرا من البنوك الصغيرة ولإثارة إعجاب السلطات المركزية بما تحققه من نجاح، كانت تقوم بتقديم أسعار فائدة مرتفعة للمودعين من خلال القنوات الرقمية، على أن تقوم باستثمار تلك العوائد في مجال منتجات إدارة الثروات على أمل توليد عوائد عالية لسداد الأرباح واجبة السداد على أموال المودعين، وقد حاولت السلطات الحد من هذا السلوك، ونتيجة تباطؤ النمو الاقتصاد لم تعد تلك البنوك قادرة على تحقيق أرباح ضخمة تمكنها من دفع أسعار الفائدة واجبة السداد للمقرضين، ولم تعد لديها سيولة مالية قادرة على تلبية حقوق وطلبات السحب”.
ويضيف: “مع هذا فإن الحكومة الصينية نجحت بشكل واضح في الحد نسبيا من أنشطة بنوك الظل التي تستخدم أدوات التمويل والاستثمار التي تتسم بسوء التنظيم وتشتمل على مخاطر غامضة، ولكنها تأخرت كثيرا”.
إذن عوامل الضعف الداخلي في النظام المصرفي الصيني لعبت دورا رئيسا في تنامي التحديات التي يواجهها النظام البنكي، يضاف إلى ذلك أن الصين بات يتعين عليها أن تدير أزمة ديونها الخارجية بوصفها دائنا، ما زاد من حدة مشكلات النظام المصرفي المحلي.
فالبنوك الصينية المملوكة للدولة قدمت ما مجموعه 838 مليار دولار للدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق منذ 2018 إلى 2021، وعلى الرغم من أن عديدا من المشاريع التي نفذت كانت مفيدة للدول المشاركة، فإن كثيرا منها لم يولد ما يكفي من الأموال، كما أن وباء كورونا والحرب في أوكرانيا دفعا كثيرا من الدول إلى التخلف عن سداد ديونها كما حدث في سيرلانكا، أو أنها طالبت بفترات سماح أو مزيد من القروض نتيجة الضائقة المالية مثل باكستان، وأجبر هذا الوضع الصينيين على تقديم قروض لإنقاذ المقترضين، ما رفع من معدل مخاطر الائتمان في النظام المصرفي الصيني.
لكن السؤال الذي لا يزال محل جدل بين الخبراء، هل الأزمة المالية التي تبرز ملامحها في الصين أزمة مستقلة تعود إلى تراكم القرارات المالية غير السليمة، ما يتطلب إصلاح التنظيم المالي القائم بغض النظر عن الوضع الاقتصادي، أم أن الأزمة المالية الصينية التي تلوح في الأفق وليد طبيعي لوضع اقتصادي مضطرب ؟
يعتقد الدكتور مايكل أوليفر أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة لندن أن الأزمة المالية الصينية ستتطلب على الأمد الطويل أساليب معالجة خاصة بها بغض النظر عن الوضع الاقتصادي ومعدلات النمو، ولكن في الوقت الراهن فإن الحكومة الصينية عليها أن تعطي مزيدا من الاهتمام للمخاطر التي تهدد النمو الاقتصادي، فحل تلك المشكلة سيضمن تأخر انفجار الأزمة المالية لكن لا يضمن حلها.
ويقول لـ”الاقتصادية”: “إن تباطؤ النمو أدى إلى تفاقم المخاطر التي قد تهدد الاستقرار المالي في الصين، فعلى سبيل المثال تباطؤ النمو أدى إلى انتشار الخسائر في قطاع العقارات وامتد ذلك للقطاع المصرفي خاصة البنوك الإقليمية الصغيرة ومتوسطة الحجم، في الوقت الحالي يمكن التحكم في الأضرار، ولكن فترة طويلة من النمو البطيء من شأنها أن تولد خسائر أكبر في مزيد من القطاعات الاقتصادية، وبالتالي في عديد من البنوك، وهذا يوجد وضعا تترافق فيه الأزمة الاقتصادية مع أزمة مالية”.
ويضيف: “الصين لا تزال لديها القدرة الاقتصادية والمالية لتدارك الوضع، وهناك حاجة إلى حل مشكلة المطورين العقاريين المثقلين بالديون، وكذلك مشكلات البنوك الصغيرة الضعيفة والسماح بعمليات دمج واستحواذ بين البنوك، وإنشاء إطار قوي لإعادة رأسمالة البنوك، على أن يتم ذلك ضمن أطر من الشفافية لضمان الاستقرار المالي والاقتصادي في البلاد”.