جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2024/05/01
المصدر- اندبندنت عربية
راكمت دول العالم غنية وفقيرة كماً هائلاً من الديون في فترة التيسير النقدي وتواجه أزمة الآن مع ارتفاع خدمة الدين نتيجة الفائدة العالية
مع مؤشرات الأسابيع الأخيرة على أن البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى حول العالم لن تبدأ خفض سعر الفائدة سريعاً كما كان متوقعاً من قبل، تزيد احتمالات عودة الاضطراب إلى أسواق السندات، ويعني ذلك مضاعفة أخطار أزمة الدين العالمي الذي وصل بنهاية العام الماضي إلى أكثر من 313 تريليون دولار، بحسب أحدث الأرقام الصادرة عن معهد التمويل الدولي الشهر قبل الماضي.
زاد هذا الرقم في الأشهر الأولى من عام 2024 مع زيادة في الدين العام، إذ استمرت الحكومات في إصدار سندات دين سيادية بصورة كبيرة مع التقديرات المتفائلة ببدء البنوك المركزية خفض أسعار الفائدة، من ثم انخفاض كلفة الاقتراض.
في مقابلة مع شبكة "سي أن بي سي" على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في السعودية هذا الأسبوع، حذر رئيس المنتدى بورج برندي من أن إجمال الديون العالمية "لم يكن بمثل هذا السوء منذ حروب نابليون" قبل نحو قرنين، مشيراً إلى أن "حجم الدين العالمي يقترب من نسبة 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمال العالمي".
ومع أنه يصعب تقدير مشكلة الدين العالمي في فترة نابليون مطلع القرن الـ19، إلا أن بعض التقديرات تقول إن حجم الدين البريطاني في عام 1815 بلغ نسبة 200 في المئة من الناتج المحلي الإجمال وقتها.
العجز وخدمة الدين
على رغم أن مشكلة الدين العالمي تعتبر تقليدياً أكبر في الدول النامية، فإن ارتفاع مستويات الدين حالياً يطاول كل دول العالم بما فيها الغنية ذات الاقتصادات المتقدمة أيضاً، وبالنظر إلى معدلات الاقتراض، سواء في الدول المتقدمة أو الصاعدة وحتى النامية، يتوقع استمرار أزمة الديون لنحو 10 سنوات مقبلة، وفق ما يراه الاقتصادي الأميركي ورئيس مجموعة "لافر" للاستثمار، آرثر لافر.
وأضاف لافر في مقابلة تلفزيونية قبل أسابيع، "شهدت الدول المرتفعة الدخل وكذلك الدول الصاعدة زيادة كبيرة في حجم الدين بلغت نحو 100 تريليون دولار في غضون العقد الماضي، ومع أسباب تراكم المديونية ترتفع كلفة خدمة الديون نتيجة أسعار الفائدة المرتفعة".
يتفق رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي في مقابلته مع تقدير لافر بأن العقد القادم لن يكون جيداً بالنسبة إلى مشكلة الدين العالمي، مطالباً حكومات العالم باتخاذ التدابير والإجراءات الكفيلة بخفض حجم الديون لكن من دون أن تسبب تلك الإجراءات ركوداً اقتصادياً.
ويشير إلى أن الأخطار الحالية تنذر بتكرار ما حدث في سبعينيات القرن الماضي حين ظل النمو الاقتصادي العالمي بطيئاً لمدة 10 سنوات، إلا أنه يرى أن بإمكان العالم تفادي ذلك "إذا استمر في التجارة ولم يدخل في مزيد من الحروب التجارية"، وتلك إشارة ضمنية إلى الصراع بين أكبر اقتصادين في العالم، الأميركي والصيني، الذي يضر بفرص التجارة العالمية.
ويشهد كلا الاقتصادين الأكبرين في العالم مشكلة مديونية هائلة ليس فقط نتيجة زيادة الاقتراض الحكومي، وإنما أيضاً لارتفاع كلفة خدمة الدين بسبب أسعار الفائدة العالية، ويضاعف من المشكلة برامج الإنفاق الحكومي، بخاصة في الولايات المتحدة التي تشهد انتخابات نهاية هذا العام، من ثم تنفق الإدارة الحالية ولو باتساع رقعة العجز.
في مطلع أبريل (نيسان) الجاري، حذر صندوق النقد الدولي من أن "الارتفاع الهائل في الدين الحكومي الأميركي ينذر بخطر أن يصبح مشكلة لبقية دول العالم"، وذلك لأن استمرار ارتفاع الدين الأميركي يمكن أن يؤدي إلى زيادة العائد على سندات الخزانة وهو ما يعد مؤشراً قياسياً لكلفة اقتراض غالب دول العالم.
بحسب تقديرات مكتب الموازنة في الكونغرس الأميركي فإن العام الحالي سيشهد تجاوز مدفوعات خدمة الدين الأميركي مخصصات الدفاع، وفي تقرير للمكتب في مارس (آذار) الماضي توقع أن يرتفع الدين العام الحكومي من 34 تريليون دولار حالياً تمثل نسبة 99 في المئة من الناتج المحلي الإجمال، إلى نسبة 166 في المئة بحلول عام 2054 حين يصل الدين الحكومي إلى 141.1 تريليون دولار.
ديون الدول النامية
في تقرير "المراقبة المالية" لصندوق النقد الدولي الصادر نهاية الأسبوع الماضي، توقع الصندوق أن يصل حجم الدين العام في العالم إلى ما يقارب حجم الناتج المحلي الإجمال العالمي في غضون أربع سنوات. ومع أن الصندوق قدر أن يكون 2024 عام "تقشف مالي" لغالب الحكومات إلا أنه أشار إلى أن "هذا الأمر ليس مؤكداً تماماً".
قد تستطيع الدول ذات الدخل المرتفع والاقتصاد المتقدم تخفيف حدة مشكلة المديونية بإجراءات مالية تسمح بها أوضاعها التي تعطيها مرونة و"حيز تصرف" مناسبين، لكن الدول النامية، بخاصة المنخفضة الدخل منها لا تملك هذا الخيار.
في ورقة لمجموعة البنك الدولي مطلع فبراير (شباط) الماضي بعنوان "أزمة ديون صامتة" خلص عدد من الباحثين الاقتصاديين في البنك إلى أن "الاقتصادات النامية ذات التصنيف الائتماني الضعيف" عالقة في أزمة دين عام لا تستطيع الفكاك منها، وعلى رغم ذلك شهد مطلع هذا العام "الاندفاع" نحو إصدار السندات لإعادة تمويل ديونها قبل أن تتضاءل الفرصة.
وفي أوائل يناير (كانون الثاني) الماضي حصلت المكسيك وإندونيسيا وعديد من الاقتصادات النامية الأخرى على أكثر من 50 مليار دولار بسهولة من مستثمري السندات، إلا أن ظروف مطلع العام، إذ قدر المستثمرون في سندات الدين بدء خفض أسعار الفائدة -تغيرت، وأصبحت توقعات الأسواق الآن استمرار أسعار الفائدة مرتفعة لفترة لأطول، وقد لا يبدأ "الاحتياط الفيدرالي" (البنك المركزي الأميركي) خفض أسعار الفائدة إلا بنهاية العام، بل إن هناك بعض الاقتصاديين يرون أنه توجد إمكانية لعدم خفض الفائدة هذا العام أصلاً، بل وربما رفعها.
بحسب ورقة البنك الدولي فإنه "لا يزال 28 اقتصاداً نامياً - وهي الاقتصادات ذات التصنيف الائتماني الأضعف - عالقاً في شرك الديون من دون أمل في الخروج منه في أي وقت قريب، وبلغ متوسط نسبة الدين إلى إجمال الناتج المحلي في هذه الاقتصادات نحو 75 في المئة في نهاية عام 2023، أي بزيادة قدرها 20 نقطة عن مثيلاتها من الاقتصادات النامية العادية، وهذه الاقتصادات تمثل ربع جميع الاقتصادات النامية ذات التصنيف الائتماني، كما تمثل 16 في المئة من سكان العالم، ولكن نشاطها الاقتصادي الجماعي لا يشكل سوى خمسة في المئة من الناتج العالمي، وهو ما يجعل من السهل على بقية العالم تجاهل محنتها، ونتيجة لذلك، فإن أزمة ديونها صامتة ويمكن أن تشتد حدتها.
زادت كلفة الاقتراض لتلك الاقتصادات بصورة حادة على مدى العامين الماضيين، وتواجه الآن أسعار فائدة أعلى بنحو 20 نقطة من السعر القياسي العالمي، وأكثر من تسعة أضعاف أسعار الفائدة للاقتصادات النامية الأخرى، وأصبحت محرومة من الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية لأكثر من عامين، لذا يضيف باحثو البنك الدولي "ليس من المستغرب أن 11 اقتصاداً منها تخلفت عن السداد منذ عام 2020، وهو عدد يقترب من إجمال العقدين السابقين".
حلول قد تفاقم الأزمة
يقترح اقتصاديو البنك الدولي في ورقتهم حلولاً عاجلة على الدول ذات المديونية العالية اتخاذها، وهي في مجملها حلول تشبه ما يطرحه صندوق النقد الدولي من برامج إصلاح اقتصادي مرتبطة بالقروض التي يقدمها لمساعدة الدول التي تضطر للجوء إليه كمقرض الملاذ الأخير، وهو أيضاً ما يراه اقتصاديون ومستثمرون من أمثال آرثر لافر، إلا أن تلك الإجراءات ربما تناسب الدول المتقدمة ذات الدخول العالية والتي لديها مرونة مالية تسمح لها بذلك من دون الإضرار بفرص النمو، لكنها في الدول النامية والفقيرة يمكن أن تؤدي ليس فقط إلى تباطؤ النمو وإنما إلى اضطرابات اجتماعية.
بحسب خبراء البنك الدولي، "تحتاج هذه الاقتصادات إلى مساعدات خارجية فورية لتخفيف أعباء الديون، وتحديث شامل للإطار العالمي لإعادة هيكلة الديون، الذي لم يقدم حتى الآن سوى قدر ضئيل من تخفيف هذه الأعباء للبلدان التي هي في أمس الحاجة إليه، ولكن هذه البلدان لديها أيضاً عمل كبير يمكنها القيام به لمساعدة أنفسها".
بالطبع لا يمكن تجاوز أن تراكم الديون بهذه الصورة الهائلة الذي قاد إلى فقاعة يمكن أن تنفجر في أي لحظة وتؤدي إلى أزمة مالية عالمية، إنما يعود في قدر منه إلى سياسات مالية غير سليمة من قبل الدول المدينة. وتشير ورقة البنك إلى أن "عدم حصافة الممارسات المالية العامة كان في كثير من الأحيان السبب الأصلي لتلك المشكلات، فقبل أن تفقد هذه البلدان إمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية، كانت حكوماتها تقترض أكثر مما ينبغي بالعملات الأجنبية، إذ اقترضت ما يعادل نحو 30 في المئة من إجمال ناتجها المحلي في المتوسط، وتسبب هذا الاقتراض في إدخال عديد منها في حلقة مفرغة مألوفة: فمع ضعف العملات المحلية، ارتفعت كلفة الديون، مما دفع العائدات على السندات المقومة بالدولار إلى ما يصل إلى سبع نقاط مئوية فوق معدلات النمو في اقتصاداتها".
لكن المشكلة الآن، بعد وصول أزمة الدين العالمي إلى هذا المستوى الخطر، لم تعد قاصرة على إجراءات تتخذها الدول النامية المنخفضة الدخل لإصلاح أوضاعها المالية، إنما أيضاً في سياسات الدول الغنية التي تعمل على ضبط نسبة العجز في موازناتها والتي تراوح ما بين ضعفين وثلاثة أضعاف المستوى الآمن القياسي للعجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمال.
وبانتظار ما ستتخذه دول مثل الولايات المتحدة ونظرائها من قرارات تتعلق بأسعار الفائدة، من ثم وضع أسواق السندات، يظل العالم في حالة ترقب لاحتمال انفجار فقاعة الدين العالمي بصورة أو بأخرى.