جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2025/02/16
شهدت تونس في الفترة الأخيرة تراجعا لافتا في احتياطي النقد الأجنبي بالبلاد وذلك بالرغم من تحسن عديد المؤشرات الاقتصادية ونمو عديد القطاعات مثل السياحة والصناعة والفلاحة، ومن تراجع العجز التجاري. فقد كشفت بيانات البنك المركزي التونسي مؤخرا عن تراجع حجم احتياطيات النقد الأجنبي بنسبة 13 في المئة مقارنة بآخر بيان صدر عن البنك المركزي التونسي بهذا الخصوص قبيل البيان المشار إليه.
فقد هبطت احتياطيات تونس من النقد الأجنبي إلى 23.325 مليار دينار أي ما يعادل 7.3 مليار دولار، وهو ما يغطي واردات 104 أيام، مقابل 26.701 مليار دينار أي ما يغطي واردات 119 يوما، في اليوم الذي سبق. ولم يكن هذا التراجع في احتياطي البلد من النقد الأجنبي مفاجئا للمختصين وللعارفين بخبايا الوضع الاقتصادي والتوازنات المالية للدولة التونسية في السنوات الأخيرة وبحجم المداخيل والنفقات المضمنة في قانون المالية.
الدين الخارجي
ويعود سبب هذا التراجع إلى قيام الدولة بسداد أقساط ديون خارجية حلّ أجلها وتبلغ قيمتها 1.8 مليار دولار، وما زالت الدولة ستقوم بسداد ديون أخرى خلال هذا العام من مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج والصادرات الفلاحية والصناعية والمنجمية وغيرها. وسيكون هذا السداد على حساب التنمية بعد أن اعتبر القائمون على الدولة أن سداد ديونها في الآجال هو أولوية، وذلك بدون السعي لطلب إعادة جدولة هذه الديون من قبل الجهات المانحة وفي مقدمتها المؤسسات المالية الدولية.
وكان مجلس نواب الشعب قد صادق الشهر الماضي على مشروع قانون يلزم البنك المركزي التونسي بتوفير مبلغ قدره 2.2 مليار دولار للحكومة وذلك لدعم ميزانية سنة 2025 فيما يتعلق الديون التي سيحل أجل سدادها مع بداية العام. وأثار لجوء الحكومة إلى بنكها المركزي للاقتراض للمرة الثانية في أقل من عام انتقادات واسعة انبنت على الخشية من تدهور قيمة الدينار التونسي، ومن تصاعد مستوى التضخم الذي عرف زيادة طفيفة مع بداية هذا العام في وقت كان ينتظر أن يشهد انخفاضا.
فالبنك المركزي هو الذي حافظ على توازن الدينار التونسي خلال السنوات الماضية رغم الخضات التي شهدها الاقتصاد التونسي، وبالتالي يخشى من أن اللجوء إليه للاقتراض في كل مرة قد يمس من قدرته على المحافظة على هذه التوازنات التي حفظت الدينار، ومن قدرته أيضا على التحكم في نسبة التضخم. وبالتالي فإن الاقتراض المتزايد للحكومة من بنكها المركزي سيؤدي إلى إضعاف رصيده من العملة الصعبة وهذا الإضعاف قد يؤثر على سعر صرف الدينار التونسي باعتباره ينظر إليه في علاقة باحتياطي البلد من العملة الأجنبية.
كما أن إفراغ احتياطي البلد من العملة الصعبة قد يؤدي إلى عدم قدرته على تمويل وارداته من السلع الأساسية ومن دعم عديد المنتوجات حتى تصل إلى المواطن بسعر يتناسب مع دخله الفردي. وقد يؤدي التقشف في استيراد السلع الأساسية إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية خاصة وأن عموم المواطنين لا تهمهم كثيرا مسألة سداد الدين الخارجي ولا يتسامحون مع غياب السلع الأساسية.
وينتظر أن ترتفع هذا العام قيمة أقساط الديون المطالبة تونس بسدادها بأكثر من 20 مليار دينار تونسي مقارنة بما كانت مطالبة بسداده خلال العام الماضي وتم الإيفاء به في المواعيد المحددة. حيث كشفت وزارة المالية التونسية بأن أقساط الديون التي سيتم سدادها هذا العام ارتفعت من 139.976 مليون دينار خلال العام الماضي إلى 160.000 مليون دينار هذا العام. كما تكشف الأرقام أن تونس بحاجة إلى سداد ديون بقيمة 9 مليارات دينار في الربع الأول من عام 2025، منها 5.1 مليار دينار ديون خارجية.
كما تعتمد الدولة بصورة لافتة على الاقتراض من البنوك التجارية المحلية لتمويل نفقاتها وهو ما أدى تضاعف حجم القروض الداخلية خلال سنة من 11 مليار دينار إلى أكثر من 22 مليار دينار. وهو ما جعل هذه البنوك تفضل إقراض الدولة على اقراض المواطن الراغب في بعث مشروع تنموي يحرك عجلة الاقتصاد ويحد من البطالة ويوفر الشغل لصاحب المشروع ولمن سيتم انتدابهم للعمل في هذا المشروع.
غياب التنمية
إن من مساوئ خيار الالتزام بسداد الديون في الآجال دون البحث والتفكير في طلب إعادة جدولتها هو غياب السيولة لإنجاز المشاريع التنموية المتعلقة بالبنى التحتية والمشاريع المتعلقة بقطاعات استراتيجية حيوية على غرار الطاقات البديلة وحسن التحكم بالمياه وغيرها. ويؤدي الانكماش في الاستثمار العمومي إلى تراجع قطاعات الإنتاج والخدمات وهو ما يؤدي بدوره إلى انخفاض معدل النمو الاقتصادي مقارنة بالتوقعات التي وضعتها الدولة في قوانين المالية.
وبالتالي فإن نسبة النمو لن تعرف الزيادة التي يتوق الجميع إلى تحقيقها هذا العام باعتبار أن الإيرادات التي تتأتى من مختلف الأنشطة الاقتصادية الحيوية تذهب إلى سداد ديون العشرية الماضية التي يمثل حجمها 25 في المئة من نفقات الدولة المرصودة سنويا في قانون المالية.
كما أن التأخير الحاصل في المصادقة على بعض القوانين المحفزة على الاستثمار الخارجي لتعويض غياب السيولة لقيام الدولة بالمشاريع التنموية، على غرار قانوني الصرف والاستثمار، يعطل التنمية بشكل لافت ومحير ولم يجد له كثير من التونسيين أي تفسير. فلا يعرف إن كان هناك تقاعس من الإدارة لإعداد مشاريع القوانين وعرضها على البرلمان لمناقشتها، أم هناك من يخدم لوبيات خارجية ليس من مصلحتها أن تحصل استثمارات تنهض بالبلاد وتنهي تبعيتها في عديد المجالات على غرار المجال الطاقي الذي تشهد فيه تونس عجزا منذ بداية هذه الألفية مع تراجع إنتاجها من النفط والغاز.
ويرى البعض أن اللجوء إلى التداين الداخلي رغم مساوئه هو الحل الأمثل لتجنب إذلال الخارج للتونسيين وحفظا لكرامتهم خاصة وأن البعض يشترط على تونس لاقراضها مواقف سياسية محددة ولا يكتفي بالربح الحاصل من فوائد القروض. وبالتالي فإن الكرامة والسيادة الوطنية بالنسبة لهؤلاء خط أحمر حتى وإن كان على حساب التوازنات المالية للبنك المركزي التونسي وعلى حساب تمويل المؤسسات البنكية المحلية الخاصة للمشاريع التنموية للمواطنين من الراغبين في بعثها.
والبعض يعتقد أنه للقضاء على هذه المعضلة، أي توفير السيولة المالية للتنمية وجب على الدولة، إذا لم ترغب في طلب إعادة جدولة ديونها، أن تشرع القوانين المحفزة على الاستثمار الأجنبي في أسرع الآجال وتزيل العوائق التي تنفر المستثمر الأجنبي. كما وجبت مضاعفة الإنتاج في مختلف المجالات خاصة في القطاع الفلاحي وفي القطاع المنجمي حيث ما زالت تونس لم تبلغ بعد الأرقام التي كانت تسجلها قبل الثورة إنتاجا وتصديرا وهي التي لديها كل الامكانيات لتجاوز الـ10 ملايين طن التي كانت تنتجها في سنة 2009.
المصدر- القدس العربي