تقارير ودراسات

  • شارك:

البنوك المركزية تقول بأنها تعاني كثيراً في التعامل مع بيانات مشكوك فيها


جمعية البنوك اليمنية - صنعاء     بتاريخ: 2025/06/19

 

كان هذا الشهر صعباً على الإحصائيين. ففي الثالث من يونيو، أقر مكتب إحصاءات العمل الأمريكي بوقوع خطأ في تحديد الأوزان المستخدمة ضمن «المسح السكاني الحالي»، وهو ما انعكس على بيانات التوظيف والبطالة ومعدل المشاركة في سوق العمل لشهر أبريل. وفي اليوم التالي، اعترف مكتب الإحصاءات الوطني في المملكة المتحدة بخطأ مشابه في الأوزان أدى إلى تضخيم معدل التضخم المعلن للشهر ذاته.

والسؤال الذي يواجه مستخدمي هذه البيانات اليوم، هو: كيف نتعامل مع هذا الواقع؟ وتزداد المشكلة تعقيداً بالنسبة للبنوك المركزية، التي تفتخر بأن قراراتها «مرتبطة بالبيانات»، وتعتمد في تحركاتها على تفاصيل دقيقة للغاية ضمن دورات الاقتصاد.

وقد تعرض مكتب إحصاءات العمل الأمريكي لسلسلة من الانتقادات في الآونة الأخيرة، بسبب تزايد الشكوك حول جودة البيانات التي ينشرها. ورغم أن المكتب أكد أن خطأ الأوزان في بيانات التوظيف كان طفيفاً وسيتم تصحيحه في أرقام شهر مايو، إلا أن هذا لم يكن الإخفاق الأول له خلال الأسابيع الماضية.

وفي اليوم التالي، أعلن المكتب أن نقص الموظفين لديه أثر سلباً على جودة بيانات التضخم الرسمية (مؤشر أسعار المستهلكين)، ما أجبره على تعليق جمع الأسعار في بعض المناطق، والاعتماد بدرجة أكبر من المعتاد على بيانات تقديرية. وأوضح المكتب أن التأثيرات قد تكون محدودة، لكنها قد «تزيد من تقلبات المؤشرات على مستوى المناطق أو فئات السلع».

وخلال الشهر الماضي، أعلن المكتب عن وقف جمع ونشر العديد من مكونات مؤشر أسعار المنتجين. ورغم هذه الأخطاء والتجاوزات، تبقى بيانات المكتب المتعلقة بالأسعار وسوق العمل مرجعاً موثوقاً. غير أن ذلك لا ينطبق على أحد أبرز إصداراته: بيانات الوظائف في القطاعات غير الزراعية.

وفي كل شهر، يتوقع المحللون الزيادة في عدد الوظائف بدقة تصل إلى أقرب ألف وظيفة، كما يراقب الفيدرالي الأمريكي هذه الأرقام عن كثب. ثم تتفاعل الأسواق إيجاباً أو سلباً وفقاً لمدى تطابق الأرقام الفعلية مع التوقعات. وبعد ذلك، تنسى تلك الأرقام مع صدور تقرير الشهر التالي، وتبدأ العملية من جديد.

وتكمن المشكلة في ضعف التقدير الأولي لمكتب إحصاءات العمل للتغير في عدد الوظائف بالقطاعات غير الزراعية. فمنذ عام 2023، على سبيل المثال، عادة ما يعاد تعديل أرقام نمو الوظائف بالخفض خلال الشهرين التاليين لنشرها، ثم يعاد تعديلها مجدداً لاحقاً عند مقارنتها بمسح أكثر دقة وهو: «التعداد الفصلي للتوظيف والأجور»، الذي يستند إلى بيانات إدارية صادرة عن برامج التأمين ضد البطالة في الولايات الأمريكية. وتكون هذه التعديلات كبيرة، إذ تبلغ نحو 50 ألف وظيفة شهرياً عند المقارنة بين التقدير الأولي والبيانات المحدثة، أي ما يمثل متوسط تخفيض زاد على 20% حتى الآن.

وأظهر آخر تعداد فصلي للتوظيف والأجور مجدداً أن نمو الوظائف كان أبطأ خلال الفترة ما بين أبريل وديسمبر 2024 مقارنة بالأرقام الأولية للوظائف غير الزراعية، ما يشير إلى أن مراجعات البيانات ستتجه نحو مزيد من الخفض. ويرجح محللون في بنك «باركليز» أن تؤدي عملية المراجعة المعيارية المرتقبة أوائل العام المقبل إلى خفض متوسط عدد الوظائف المضافة شهرياً خلال العام الماضي من نحو 150 ألف وظيفة إلى 80 ألفاً فقط.

ولو تم نشر تلك الأرقام كبيانات آنية العام الماضي، لكان من المرجح أن تزداد المخاوف الخاطئة بشأن ارتفاع معدلات البطالة واحتمال دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود. ويرى «باركليز» أن السبب الأكثر ترجيحاً وراء هذا التباطؤ هو تراجع معدلات الهجرة، ما قلص من وتيرة النمو المستدام في سوق العمل. ورغم أن الحكم النهائي في هذا الشأن يعود إلى الفيدرالي، فإن اتخاذ قرارات دقيقة يتطلب بيانات أكثر جودة مما هو متاح حالياً.

وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، تبدو مشكلات مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني أكثر تعقيداً. فبعد استقالة كبير الإحصائيين إيان دايموند بشكل مفاجئ في مايو، وفي ظل مراجعة مرتقبة لثقافة القيادة في المكتب، لم تتوقف سلسلة الأخطاء والبيانات غير الموثوقة.

وكان الخطأ الأكثر إحراجاً قد حدث في بيانات التضخم لشهر أبريل، إذ جرى حساب ضريبة المركبات بشكل غير دقيق عند تسليمها إلى مكتب الإحصاءات الوطنية دون أن يتكلف أحد عناء التحقق مما إذا كانت الأرقام منطقية. وسارع مراقبون خارجيون إلى التشكيك فيها، ولم يقر المكتب بالخطأ إلا بعد أن كشفت صحيفة «فايننشال تايمز» عن الأمر.

والمشكلة أن الخطأ الفادح في بيانات الأسعار جاء من الجزء الذي يعتقد أنه يعمل بشكل جيد نسبياً داخل مكتب الإحصاءات الوطنية. أما «منطقة الكارثة المعروفة» فهي بيانات التوظيف، حيث يخوض المكتب معركة مع «مسح القوى العاملة» المتعطل حالياً، وهو ما يحرم بنك إنجلترا من القدرة على معرفة ما يحدث على صعيد مشاركة الأفراد في سوق العمل، إذ يعد هذا المسح المصدر الوحيد للمعلومات في هذا المجال.

وإذا كان مكتب الإحصاءات الوطنية لا يريد أن يعرف بـ«الإحصاءات شبه الدقيقة فقط»، فإن اقتراحه لجهة تنظيمه بسحب «شارة الجودة» من أحد منتجاته الأخرى، وهو «مسح الثروة والأصول»، لم يكن موفقاً. ويستخدم هذا المسح لتقدير حجم الثروة في المملكة المتحدة وتوزيعها بين السكان.

رغم ذلك، يجب الإشادة بوكالات الإحصاء في المملكة المتحدة والولايات المتحدة لقيامهما بـ«غسيل أخطائهما» علناً لكن جمع الإحصاءات الاقتصادية بات أكثر صعوبة. وكما يقول بول دونوفان، كبير الاقتصاديين في «يو بي إس»: «مجرد أن بعض الجهات الإحصائية لا تعترف علناً بأخطائها لا يعني أن تلك الأخطاء غير موجودة».

وعلى سبيل المثال، لا تتردد الصين في حذف أي سلاسل بيانات تراها «غير مريحة». أما الإحصاءات الأوروبية، فمع إنها لا تعد خاطئة بالضرورة، إلا أنها قد تنتج أرقاماً يصعب تصديقها. فقد تضاعف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي في الربع الأول من العام الجاري من 0.3% إلى 0.6% بعد التعديل الأول، وكانت معظم هذه القفزة المفاجئة من نصيب إيرلندا، حيث ارتفع معدل النمو الفصلي من 3.2% إلى 9.7%.

إذن، ما الذي يمكننا فعله؟ يجب عدم المبالغة في التفاعل مع رقم إحصائي واحد، ولا تعتمد عليه منفرداً لاتخاذ قرارات مهمة. ففي عالم تسوده بيانات مشكوك فيها، ينبغي البحث عن أدلة داعمة واتجاهات عامة قبل اتخاذ القرار. في السياسة النقدية، قد يجعلك ذلك متأخراً في الاستجابة، لكنه أكثر أماناً.

كذلك يجب على الحكومات ألا تبخل في تمويل الجهات الإحصائية، فهي رخيصة للغاية مقارنة بتكلفة الوقوع في أخطاء البيانات. كما ينبغي تحديث القوانين وفرض التنسيق بين الجهات المعنية، بحيث تتاح كميات هائلة من البيانات الإدارية عالية الجودة التي تمتلكها الدولة لاستخدامها بسهولة أكبر في إعداد الإحصاءات الاقتصادية.

ولا يجب الاعتماد على مصدر بيانات واحد، بل لابد من السعي لاستخلاص الإشارة المشتركة من مصادر متنوعة عدة. هذا ما بدأت جميع البنوك المركزية فعله حالياً. وقد تختلف النماذج المطلوبة بحسب طبيعة المشكلة المراد معالجتها، لكن علم القياسات الاقتصادية الحديث يوفر مؤشرات غير متحيزة، لأن البشر غالباً ما يقعون في فخ «الانتقائية» عند التعامل مع قائمة من الإحصاءات المتضاربة.

 

كريس جايلز- البيان

جمعية البنوك اليمنية   جمعية البنوك اليمنية

رابط مختصر:
UP