مقابلات ومقالات

  • شارك:

كيف تغيّر (البنوك الرقمية) تعريف ما نعدّه خدمةً بنكية؟!


جمعية البنوك اليمنية - صنعاء     بتاريخ: 2025/09/23

 

عبدالله الزعيمي*

من موقعي كمدير لإدارة التسويق في البنك التجاري اليمني، أرى يوميًا كيف تغيّر «البنوك الرقمية» تعريف ما نعدّه خدمةً بنكية. ما بدأ قبل سنوات كتطبيقات خفيفة لتقليل الكلفة وتسريع المعاملات، تحوّل اليوم إلى نموذج عملٍ كامل ينمو ويحقق أرباحًا ويكسب ثقة شرائح واسعة من العملاء. والبنك، في جوهره الجديد، لم يعد مبنىً له ساعات عمل محددة؛ صار منصّة رقمية تعمل على مدار الساعة، مرنة وآمنة ومتصلة بحياة المستخدمين عبر الهاتف في جيوبهم.
وحين نتحدث عن بنكٍ رقمي فنحن لا نقصد «واجهة جميلة» فحسب، بل مؤسسة مرخّصة تُدار تقنيًا من السحابة، تعتمد التكامل عبر واجهات برمجة آمنة، وتُشغِّل مئات العمليات تلقائيًا: من فتح الحساب والتحقق من الهوية، مرورًا برصد الاحتيال لحظيًا، وصولًا إلى تسعيرٍ ائتماني قائم على البيانات لا الانطباعات. 
ولهذا استطاعت أسماء عالمية—مثل Nubank في أمريكا اللاتينية، وRevolut وMonzo في أوروبا، وKakaoBank في كوريا، وWeBank في الصين—أن تنتقل من «تجربةٍ واعدة» إلى لاعبٍ مؤثّر. وحتى منطقتنا تشهد جيلًا مرخّصًا من البنوك الرقمية مثل Wio Bank في الإمارات وstc Bank وD360 في السعودية، وكلها تشير إلى اتجاه واحد: طلبٌ متزايد على تجربةٍ مصرفية أسرع، أبسط، أقل كلفة، وأكثر شفافية.
ويمكن القول أن المستقبل يميل لصالح هذا النموذج لأسبابٍ واضحة منها:
 أولًا: اقتصاديات تشغيلٍ أفضل؛ إذ يخدم البنكُ الرقمي الحسابَ الواحد بكلفة أدنى بكثير من نموذج الفروع، ما يتيح تسعيرًا أكثر عدلًا ورسومًا أقل وحزم خدماتٍ أدق توجيهًا. 
ثانيًا: سرعة ابتكار تُشبه شركات التقنية؛ ميزة جديدة يمكن أن ترى النور خلال أسابيع لا أشهر. 
ثالثًا: تفوّقٌ في تجربة العميل عبر التفاصيل التي تصنع الولاء—إشعارات فورية مفهومة، تحليلات إنفاقٍ تساعد على القرار، تحويلات لحظية بلا تعقيد، ودعمٌ عبر المحادثة يحل المشكلة بدل إحالتها. 
رابعًا: ذكاءٌ اصطناعي ينساب عبر السلسلة كاملة—يتحقق سريعًا من الهوية، يستبق الاحتيال، ويقترح قرارات ادخارٍ وسدادٍ في اللحظة المناسبة. 
أخيرًا: شمولٌ مالي حقيقي يصل إلى من لم تصلهم الخدمات البنكية من قبل، عبر هاتفٍ ذكي واتصالٍ متواضع وبطاقاتٍ افتراضية ورموز الاستجابة السريعة (QR) في المتاجر الصغيرة.
ولكن ماذا يعني ذلك لليمن؟
 واقعنا معقّد: بنية تحتية متفاوتة، حاجة عالية للحلول المحلية، وتحويلات مغتربين تمثّل شريانًا اقتصاديًا. لذا لا يكمن الفوز في هدم ما بُني، بل في مزج حكمة البنك التقليدي مع رشاقة البنك الرقمي.
 والهدف بسيط وواضح: يجد العميل كل ما يحتاجه في تطبيقٍ واحد خفيف يعمل حتى مع ضعف الإنترنت—من الحسابات والبطاقات والتحويلات إلى سداد الفواتير والشراء عبر رمز QR—مع محفظة عائلية تُتيح ضبط المصروفات بسهولة. وبموازاة ذلك، نقدّم للتاجر الصغير دفترًا إلكترونيًا مبسّطًا للفواتير والجرد وتقارير المبيعات، فتتكوّن صورةٌ أوضح عن نشاطه تُعيننا لاحقًا على منحه تمويلًا مناسبًا بقرارٍ مدروس.
 وفي التحويلات من الخارج وإليها، تبقى الرسوم الواضحة وسرعة وصول الأموال عبر شراكاتٍ عابرة للحدود عناصرَ فارقة. وكل ذلك تحت مظلة حمايةٍ صارمة: مصادقة متعددة العوامل، ومراقبة مستمرة لمخاطر الاحتيال، وأنظمةُ امتثالٍ لا تُعطّل خدمة العميل.
وعلى مستوى الإيرادات، لا نقف عند هامش الفائدة فحسب؛ بل نتجه إلى تنويع المصادر: باقاتٌ مميّزة باشتراكٍ بسيط، أدوات ادخارٍ واستثمارٍ سهلة الفهم، حلولٌ عملية للتجّار، وخدمات قيمة مضافة للأفراد والشركات. والأهم أن المنصّة تنفتح للتكامل مع شركاء الاقتصاد الحقيقي—من شركات الاتصالات إلى تطبيقات التوصيل والتجارة الإلكترونية—ليُبنى فوقها ما يحتاجه الناس فعلًا. ومع هذا التوجه، تتحوّل الفروع تدريجيًا إلى مراكز استشارة وخبرة، بينما تنتقل أغلب المعاملات إلى القنوات الرقمية. في النهاية، سيفوز من يقدّم أبسط تطبيق وأذكى خدمة وأعلى شفافية.
فهل ستحلّ البنوك الرقمية محلّ التقليدية؟
في تقديري لا. لكنها ستجبر البنوك التقليدية على العمل بعقلية رقمية كاملة. المستقبل ليس ثنائيًا؛ بل اندماجٌ تُحسم نتيجته لصالح من يضع العميل في المركز، ويصمم حوله رحلةً بسيطةً شفافةً آمنة، ويحوّل البيانات إلى قراراتٍ أفضل في التوقيت المناسب.
 في البنك التجاري اليمني على سبيل المثال تعلّمنا أن التحوّل الرقمي ليس «مشروع تقنية» ننهيه ثم نحتفل، بل أسلوب إدارةٍ دائم يبدأ من احتياج عميلٍ حقيقي وينتهي عند قيمةٍ يلمسها فورًا. 
ولذلك فإن السباق اليوم ليس على عدد الفروع ولا كثرة الشعارات، بل على الثقة التي يحملها العميل في هاتفه: نقرة واحدة، ثوانٍ معدودة، وتجربةٌ تُشعره أن بنكه أقرب إليه من أي وقتٍ مضى. هذه هي بوصلتنا… وهذا هو المستقبل الذي نعمل—بهدوءٍ وثبات—على بنائه.

*مدير التسويق - البنك التجاري

جمعية البنوك اليمنية   جمعية البنوك اليمنية

رابط مختصر:
UP