مقابلات ومقالات

  • شارك:

خريطة الكنز الرقمي Digital Treasure Map: كيف تكتشف قوة مؤسستك المخفية قبل أن تبحر في التحول


جمعية البنوك اليمنية - صنعاء     بتاريخ: 2025/10/07

 

 عبدالرحمن أحمد الحكيم*

-التحول الرقمي الناجح ينبع من فهم عميق للماضي، وإعادة توظيف ذكي لإمكانيات الحاضر، وتخطيط استراتيجي للمستقبل

في رحلتنا السابقة عبر "الضباب الرقمي"، حددنا الخطر: جهود متفرقة، وغياب رؤية موحدة، وغياب قيادة مخصصة ومكلفة بمهمة قيادة التحول الرقمي. وخلصنا إلى الحل: ضرورة وجود "ربان" (قائد تحول رقمي) و"منارة" (مكتب تحول رقمي) لقطع هذا الضباب وتجاوزه، ولكن أي ربان يحتاج إلى خريطة! هذه المقالة تقدم 'خريطة الكنز الرقمي' - ولكن ليست خريطة للبحث عن جزر الكنز المفقودة، بل دليل التفتيش الشامل والاستكشاف الداخلي الذي سيمكن الربان من استكشاف أعماق سفينته وإمكاناتها المخفية، كما يُستعمل دليل السفينة التشغيلي (Ship's Manual) الذي يرسم له تفاصيل كل ركن من أركانها وطاقاتها الكامنة. إنها بوصلة لاكتشاف الذات المؤسسية قبل الإبحار نحو آفاق جديدة والبحث عن كنوز خارجية.

والسؤال الجوهري هو: ماذا يفعل الربان وقائد التحول الرقمي عندما يتولى قيادة السفينة لأول مرة؟

الخطوة الأولى ليست الدفع بالمحركات لأقصى سرعة نحو أفق مجهول. وإنما يجب أن تكون الخطوة الأولى، والأذكى، هي أن يتفقد أعماق سفينته، أن يفتح الخرائط القديمة، ويدقق في حالة الحمولة، ويستمع إلى حكايات الطاقم المخضرم، ويتعرف على كل ركن من أركانها أن يكتشف الكنوز والإمكانيات التي تمتلكها السفينة على مدى رحلاتها السابقة، والمراسي التي تمنحها الاستقرار، لا أن يراها أثقالاً يجب التخلص منها.

هذا هو جوهر رحلتنا اليوم: الانتقال من تشخيص المرض إلى وصفة العلاج العميقة، من الحديث عن الضباب إلى الحديث عن "خريطة الكنز" وبوصلة الاستكشاف الداخلي التي ستساعدك في رحلتك وتقودك إلى بر الأمان، فقبل أن تنطلق لاستكشاف الكنوز الخارجية لابد لك من التعرف على تلك الكنوز الداخلية والتي تمتلكها في إطار مؤسستك، فالتحول الحقيقي لا يبدأ بشراء أحدث التقنيات والأنظمة، بل يبدأ باستكشاف الذات المؤسسية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

المحور الأول: الهيكل والحوكمة (أساس السفينة المتينة)

أول وأكبر خطأ يرتكبه الكثيرون هو النظر إلى إرث المؤسسة – سياساتها، إجراءاتها، أطر العمل، والمبادرات الاستراتيجيات التي تمّت على مدى كل تلك السنوات – على أنه "مرساة" تثقل كاهل السفينة وتمنعها من الإبحار بسرعة، فيسارعون إلى قطعها، ظنًا أنهم بهذا يتحررون من قيود الماضي.

لكن الربان الحكيم يعلم أن هذه نظرة قاصرة. المرساة في الحقيقة ليست عدو؛ بل هي أداة الاستقرار التي تمنع السفينة من الانجراف مع العواصف والتيارات المتضاربة، هي ذاكرة السفينة التي تحمل في طياتها دروس رحلات سابقة، نجاحاتها وإخفاقاتها، فحسن الاستفادة منها شيء أساسي ومهم، كحال كل تلك السياسات والأطر والمبادرات الاستراتيجيات لابد من الاستفادة منها كونها ذاكرة المؤسسة ونتاج لما هي عليه الآن، استيعاب تلك السياسات والإجراءات والأطر، يعني أن التحول الرقمي ليس عملية قَطْعٍ للمرساة، بل هو عملية (إعادة صياغتها وتحسينها)، وهو يقوم على ركنين:

1.1  هيكل السفينة (الذاكرة المؤسسية): سياسات المؤسسة وإجراءاتها والمبادرات الاستراتيجية وهيكلها التنظيمي الذي تم تطويره على مر السنوات، التشريح وإعادة التوصيف والصيانة المستمرة لهذا الهيكل هي الأساس، فالتحول يبدأ بإعادة تشكيل هذا الهيكل، ليس بهدمه، وإعادة تقييم الهيكل الحالي للتعرف على مواطن القوة والضعف، ثم إعادة توصيف الأدوار والمسؤوليات لتمكين الابتكار، وجعل هذا التطوير عملية مستمرة وداعمة للمرحلة القادمة.

لكننا للأسف، نلاحظ في العديد من المؤسسات والمنشآت أن الكثير من قادتها يسعى إلى هدم كل ما سبق ومحاولة البدء من الصفر وتدمير كل الإرث وكل الجهود السابقة، الأمر الذي يكلف المؤسسة الكثير، سواء من الجهود السابقة التي تمت ودفعت فيها المؤسسة الكثير من الموارد والجهود والوقت، ويؤخر من الحصول على الأثر والنتائج كون العودة إلى نقطة الصفر هو على حساب المؤسسة وزخمها وتوجهها وتحقيق رؤيتها في بيئة وسوق تنافسي وضياع الفرص وكل الإعداد لها، يعد خسارة لا تعوض، ويؤثر على المؤسسة واستمراريتها، بل ويؤخر نموها وتطورها، فتصبح المؤسسة في ذلك الإطار التقليدي وخدماتها لا تلبي ولا تعكس احتياجات المرحلة.

1.2  أجهزة الملاحة (حوكمة البيانات والأنظمة): أنظمتك القديمة وبياناتك ليست عبئاً، بل كنزاً من المعلومات والمعرفة، هنا، يتحول التركيز من مجرد جمع البيانات إلى حوكمة شاملة تحكم كيفية جمعها، وتكاملها، وتحليلها، وأخيراً استخدامها لاتخاذ قرارات استراتيجية.

المفتاح هو "التشغيل البيني" (Interoperability) بين الأنظمة القديمة والجديدة، وليس الاستبدال المكلف. وذلك من خلال تفعيل القدرات الداخلية للفريق التقني في بناء واجهات برمجية (APIs) واستخدام تقنيات الأتمتة (APA/RPA) كجسور ذكية تربط بين الأنظمة، وتحرر البيانات المكبولة داخل الأنظمة القديمة دون الحاجة إلى استثمارات باهظة، كما أن التدرج في خارطة التحديث واتباع نهج التطور وليس الثورة، يحافظ على استقرار المؤسسة ولا يثقل كاهلها بتكاليف أو مخاطر غير محسوبة.

المحور الثاني: رأس المال البشري والقيادي (قلب السفينة)

في غمرة الانبهار بالجديد، والاستعانة بالخبراء من خارج السفينة، قد يغفل الربان عن أهم الكنوز على الإطلاق، هذا المحور يضم أثمن أصول asset تمتلكها المؤسسة ألا وهو موظفي الشركة أو كما يمكن أن نسميه طاقم السفينة وقياداتها:

2.1 طاقم السفينة (الكنز المدفون): أولئك البحارة المخضرمون الذين يعرفون كل ميل في بدن السفينة، وكل صوت في محركاتها، الكفاءات البشرية المهمشة بسبب البيروقراطية، إهمال هذا الكنز البشري واستبداله ببحارة خارجيين هو بمثابة استيراد ملاحين لا يعرفون شيئًا عن تيارات مياهك الإقليمية، المستشار الخارجي يقدم أفضل الممارسات العالمية، لكن البطل الداخلي يقدم السياق والفهم العميق للتعقيدات غير المرئية، الخطة العملية هي أن ينفذ الربان "مسح كفاءات" لا يرتبط بالمناصب، بل بالمهارات والطموح والقدرة على التعلم، لإنشاء "بنك المواهب الداخلية".

2.1 البوصلة الداخلية (القيادات أصحاب الرؤية التحويلية): ليس كل أفراد الطاقم يمكن أن يكونوا "بوصلات" ترشد السفينة، فالبوصلة الداخلية تمثل أولئك القادة المميزين الذين يمتلكون رؤية استشرافية، وهِمَّةً عالية، والقدرة على ربط التفاصيل الصغيرة بالصورة الكبرى، وتحويل التحديات إلى فرص استثنائية.

وللأسف، غالبًا ما تُهمش هذه الكفاءات وتُقيَّد بسبب البيروقراطية الداخلية والصراعات الشخصية ("الفرعونية") داخل الهياكل التقليدية، والأخطر من ذلك، أن بعض المديرين قد يحاولون عزل وإقصاء هؤلاء القادة بسبب مخاوف شخصية أو تنافس غير مهني، مما يحرم المؤسسة من أهم إمكانياتها على حساب اعتبارات ضيقة، فتُبعد هذه الكفاءات عن محاولات التطوير والتحسين، وُتحرم من التمكين الكافي الذي يمكنها من أداء دورها النافع، والخاسر الوحيد في هذه المعادلة هي المؤسسة نفسها، التي تُحرم من ثمار طاقاتها الواعدة.

هنا تبرز أهمية دور قيادة المؤسسة والربان في اكتشاف هذه البوصلات، وحمايتها من التهميش والإقصاء، وتحرير طاقاتها، وتمكينها من قيادة مبادرات التحول، هؤلاء هم وكلاء التغيير الحقيقيون الذين لا يمكن تعويضهم، إن تخصيص قيادة واضحة للتحول الرقمي، وتكليفها رسمياً بالعمل عبر كل الإدارات (Cross-Function) هو الضمانة الأساسية لتمكين تلك القيادات واستثمار طاقاتها لأداء دورها الفعال في دفع عجلة التحول المؤسسي.

المحور الثالث: آليات التنفيذ والتأثير (أذرع السفينة)

وهنا نأتي لربط الكنوز الداخلية بالعالم الخارجي، محولاً الجهد إلى قيمة ملموسة وذلك من خلال:

3.1  واجهة السفينة (شركاء النجاح): وهم نقاط البيع والوكلاء، "الواجهة التي يرى من خلالك العميل العالم"، وكيف نستخدم أدوات التحول الرقمي لتعميق هذه العلاقة؟ عبر تمكينهم بأدوات رقمية بسيطة وفعالة، ودمجهم في حلقة مباشرة لجمع بيانات العميل، وتحويلهم من مجرد وكلاء إلى "شركاء نجاح" حقيقيين يشاركون في تطوير منتجات وخدمات المؤسسة.

3.2 طريق التجارة (النموذج التجاري): وهذا هو الكنز الأهم والهدف الأسمى الذي لابد أن تبحث عنه القيادة العليا: كيف يتحول كل هذا الجهد إلى قيمة مادية مستدامة؟ وكيف تخرج من العمل التقليدي والخدمات التقليدية الى مصدر دخل وعائد جديد وبالإمكانيات الحالية والرقمية لتفتح آفاقًا جديدة فعلى سبيل المثال لا الحصر: التحول من منتج إلى خدمة (Product as a Service) ، وفتح قنوات إيرادات رقمية بالكامل (منصات، اشتراكات)، وتحسين هامش الربح عبر أتمتة العمليات المكلفة في النموذج الحالي.

الربان في الميدان: أوامر عملية للانطلاق

إذن، ما هي أوامرك الأولى كربان لهذه الرحلة الاستكشافية؟:

1- أصدر أمرًا بعدم (القَطْع): أوقف أي خطط للتخلص من الأنظمة أو السياسات القديمة دون تدقيق كامل، لا تقطع أي مرساة قبل أن تفهم تمامًا ما الذي تثبته، وما البدائل، وما هي الخطط والجهود التي تمت في سبيل ذلك.

2- ابدأ (بالبحث والتدقيق عن الكنز): طبق النموذج الثلاثي المحاور لاكتشاف القدرات المخفية، قابل موظفيك المخضرمين، استمع إلى حكاياتهم وجهودهم وطموحاتهم. اسأل: "ما الذي كان يعمل بشكل جيد؟ ولماذا تغير؟"

3- صنّف كنوزك: ميّز بين كنوز تحتاج للتلميع (عملية مجربة تحتاج لأتمتة)، ومراسٍ تحتاج لإعادة صياغة (نظام قديم يحتاج إلى طبقة حديثة)، وأعباء تستلزم التخلص منها (إجراءات زائدة لا فائدة منها).

4- مكّن أبطالك: اجعل من أبطالك الداخليين قائدة وقم بتخصيص وتكليف قائد لرحله التحول الرقمي. امنحه الصلاحية والموارد، فالثقة الممنوحة لأصحاب الكفاءة ستصبح أقوى رسالة تحفيز للآخرين.

خاتمة: التحول تطورٌ، لا ثورة

التحول الرقمي الناجح ليس ثورةً على الماضي تُحرق فيها كل المراسي والخرائط القديمة، إنه تطورٌ طبيعي ينبع من فهم عميق للماضي، وإعادة توظيف ذكي لإمكانيات الحاضر، وتخطيط استراتيجي للمستقبل.

لا تنظر إلى أفق التكنولوجيا فقط لترى ما يجب أن تكون عليه، انظر أولاً إلى عنبر سفينتك، إلى طاقمك، إلى خرائطك القديمة، ستجد أن كنوزك الحقيقية كانت هناك طوال الوقت، في انتظار ربّانٍ حكيم وقائد محنك يستطيع رؤيتها وتقديرها وتوظيفها.

ولندرك أن أعظم القادة ليسوا أولئك الذين يقودون أقوى السفن، بل أولئك الذين يستطيعون بأذكى الطرق تحويل مؤسساتهم إلى أسطورة تستمر عبر الزمن، وفي النهاية، فإن التحدي الحقيقي الذي نواجهه هو اختيار وجودي: إما أن نكون... أو لا نكون.

 

*استشاري وباحث في الفنتك والتحول الرقمي

جمعية البنوك اليمنية   جمعية البنوك اليمنية

رابط مختصر:
UP