جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2020/10/29
يُواجِه الاقتصاد العالَمى خسائر كبيرة نتيجة الأضرار التى تسبَّب بها وباء «كوفيد19» والبالغة وفْق تقدير رئيس البنك الدولى ديفيد مالباس نحو 5 تريليونات دولار، والذى أكّد: «أنّ الأزمة ستُجبر الدول النامية على إعادة التفكير فى بناها الاقتصاديّة»، وقد أدّى هذا الوباء إلى تفاقُم المَخاطِر فى الأسواق العالَميّة التى تدير أنشطة ماليّة بلغت 145 تريليون دولار. وترتبط المَخاطِر بصورة أكبر بنظام «الظلّ المَصرفي» الذى سبق أن سجَّلت حركته انتعاشا كبيرا إثر انتهاء الأزمة العالَميّة 2008، بإفلاس بنك « ليمان براذرز» الأمريكى، حتّى بلغت قيمة الأصول التى يديرها هذا النظام نحو 51 تريليون دولار فى نهاية العام الماضى.
وتبرز أهميّة نظام «صَيْرَفَة الظلّ» وضخامة مَخاطِره التى أصبحت تُقلِق العالَم، كونه يضمّ أسواقا ماليّة ومؤسّساتٍ ووسطاء فى مُختلف القطاعات غير الأنشطة المصرفيّة، تتولّى تقديم خدمات مصرفيّة بفوائد ثابتة ومُغرية على ودائع المُستثمِرين، لذلك يكمن الخوف فى احتمال انسحاب هؤلاء المُستثمِرين، ما يعرِّض ملايين الشركات للخطر، مع العِلم أنّ شركات الوساطة الماليّة وصناديق الاستثمار تُواجِه حاليّا صعوباتٍ حادّة.
وتؤدّى «بنوك الظلّ» الوظيفة الرئيسة للوساطة الائتمانيّة التى تتمثّل بالآتى:
1ــ تحويل آجال الاستحقاق، بالحصول على أموال قصيرة الأجل للاستثمار فى أصول أطول أجلا.
2ــ تحويل السيولة، باستخدام خصوم شبه نقديّة لشراء أصول يكون بَيعها أصعب كالقروض مثلا.
3ــ الرَّفْع المالى، باستخدام أساليب مثل اقتراض أموال لشراء أصول ثابتة لزيادة المَكاسِب (أو الخسائر) المُحتمَلة لأيّ استثمار.
4ــ نقْل مَخاطِر الائتمان، بتحمُّل مَخاطِر عجْز أحد المُقترِضين عن قدرته على السداد ونقلها من مُنشئ القرض إلى طرف آخر.
وبما أنّ هذه البنوك لا تخضع للإشراف والرقابة التى تخضع لها البنوك التقليديّة، وبسبب غياب شبكة أمان رسميّة، قد يتحوّل قطاع الظلّ المَصرفى إلى مَصدرٍ للمَخاطِر النظاميّة التى تُعرِّض استقرار النظام المالى بأكمله للخطر. مع العِلم أنّ أهميّة هذا الاستقرار ترتبط بمدى قدرة النظام المالى على مُواجَهة الصدمات غير المُتوقَّعة؛ لذا فإنّ أيّ نظام مالى مكوَّن من مؤسّسات وأسواق وبنية أساسيّة، يُعتبَر مُستقرّا إذا استمرّ فى ضمان توزيع مَوارده الماليّة بفاعليّة مع تحقيق أهدافه الاقتصاديّة الكليّة حتّى فى أوقات الضغوط أو الأزمات.
«بؤرة» أمريكيّة
يرمز «الظلّ المَصرفى» إلى واحدٍ من الإخفاقات الكثيرة التى شابت النظام المالى العالَمى، ويُطلِق عليه الاقتصادى بول مكالى «بؤرة أمريكيّة» بصفة مُتمايِزة، ولذلك يُلاحِظ أنّ مجلس الاستقرار المالى يُركِّز عَينا على الولايات المتّحدة بشكل رئيس وحصّتها 30%، وعَينا أخرى على باقى البلدان التى تنشط فى صَيرفة الظلّ، ومن بينها الصين، وحصّتها 15% من حجم التمويل. ويُقدَّر النشاط المصرفى خارج الميزانيّة العموميّة للبنوك لديها بنحو 17 تريليون يوان، أى ما يقترب من ثلث الناتج المحلّى. ويُهيمِن على هذا النظام، الإقراض للمُقترِضين ذوى المَخاطر المُرتفِعة. وقد حذَّر صندوق النقد الدولى من تفاقُمها.
كذلك شهدت أوروبا فى السنوات الأخيرة توسّعا فى أنشطة بنوك الظلّ تجاوزَ حجمها 24 تريليون دولار. أمّا فى روسيا فقد بلغ حجم اقتصاد الظلّ (وفق تقرير هيئة الرقابة الماليّة) 20 تريليون روبل، ويُعادل 20 فى المائة من الناتج المحلّى الإجمالى، ولكنّه أكبر من نفقات الميزانيّة الفيدراليّة المقدَّرة بقيمة 18 تريليون روبل.
وعلى الرّغم من أنّ نقص البيانات يحول دون إجراء تقييمٍ شامل لصَيرفة الظلّ، يرى مجلس الاستقرار المالى العالَمى أنّ هذا النظام يُمكن أن يقوم بدَورٍ مُفيد كعنصرٍ مكمِّل للنظام المصرفى التقليدى عن طريق التوسُّع فى منْح التسليفات أو دعْم السيولة فى الأسواق، وتحويل آجال الاستحقاق، وتقاسُم المَخاطِر. ولكنّ التحدّى يبقى فى العمل لتخفيف مَخاطِره من خلال منهج أشمل للتنظيم والرقابة.
قنبلة موقوتة
إذا كان انتعاش نظام الظلّ المصرفى بدأ فى أعقاب إفلاس مصرف «ليمان براذرز» فى العام 2008، فإنّ شعور الأنظمة والأسواق الماليّة بالمَخاطِر تغيَّر جذريّا. ومع وقوع العالَم فى دوّامة فيروس «كورونا»، تفاقَم مفعول هذا النظام على هذه الأسواق بصورة سلبيّة. وكما الهزّة الأرضيّة، بدأت ارتداداته تصل تدريجيّا إلى البورصات الأوروبيّة، ما يضع الحكومات فى حالة تأهُّب للمُواجَهة المُباشرة مع مُشغّليه، ومعظمهم نخبة من الوسطاء الماليّين غير المصرفيّين، يصعب التنبّؤ بتحرّكاتهم ومُخطّطاتهم تحت طاولة التداولات الماليّة الرسميّة. لذلك يرى الخبراء الألمان أنّ نظام الظلّ المصرفى «قنبلة موقوتة« قد تنفجر بأيّ لحظة فى الأسواق الماليّة العالَميّة، وخصوصا فى ضوء استمرار أزمة «كورونا« الصحيّة والاقتصاديّة إلى أجلٍ غير مسمّى. ويرى المُراقبون أنّ الخوف الفعلى لا يأتى من داخل النظام وحده، إنّما من المُستثمِرين فيه، لأنّ انسحابهم منه يُعرِّضه إلى الإفلاس، وبالتالى سيُعرِّض الأسواق الماليّة لمصيبة أخرى تُضاف إلى ما تعانيه من ضغوط هائلة سببها أزمة فيروس «كورونا» وتداعياتها الكارثيّة على مُستقبل الاقتصاد والعمّال حول العالَم. مع التأكيد على أنّ المُشغّلين العاملين على نظام الظلّ المصرفى لن يتأخّروا لإنقاذ أعمالهم، حتّى لو كانت على حساب أوضاع البورصات العالَميّة، لأنّهم الوحيدون القادرون على إدارة مُضاربات يوميّة تفوق قيمتها تريليون يورو فى الأسواق الماليّة الأوروبيّة، وهذا ما يَعجز عنه حتّى أكبر المصارف المركزيّة الأوروبيّة.
الأموال غير المشروعة
المعروف أنّ السوق الماليّة التى تخلقها مؤسّسات صَيْرَفة الظلّ، هى سوق مشروعة من الناحية النظريّة، ولكنّها تحمل مَخاطِر كبيرة، ولاسيّما فى حالة شحّ السيولة مع تحوُّل المُقرِضين إليها، هربا من عمليّات التدقيق والمُراجَعة. وهذه السوق المُتنامية تُعَدّ مكانا آمنا لإجراء عمليّات تبييض الأموال والتهرُّب الضريبى، وما إلى ذلك من عمليّات ماليّة غير مشروعة، بخاصّة أنّ العمليّات التى تقوم بها مؤسّسات الظلّ، تموَّل من أموالٍ ذاتيّة غير داخلة فى الحسابات المصرفيّة، وبالتالى غير مُراقَبة من المَصارف المركزيّة، لذلك يتحوّل المُستثمِرون الذين يضخّون أموالهم فى الأسهم إلى إقراضها، وهو تحوُّل محفوف بالمَخاطر وتلجأ إليه المصارف أحيانا حتّى لا تظهر الصفقات التى تشكِّل مُخاطَرة كبيرة على دفاترها. مع العِلم أنّ عمليّات تبييض الأموال عبر صَيْرَفة الظلّ (على سبيل المثال لا الحصر) أمر تصعب مُكافحته إنْ لم تكُن مستحيلة، لأنّ مُراقبتها صعبة ومنْعها مستحيل، طالما أنّ الدائن والمَدين يتّفقان فى علاقة تعاقديّة رضائيّة. وبما أنّ العمليّات الماليّة لهذه المؤسّسات حرّة، فإنّ تبييض الأموال ينتشر بسرعة من دون أى إمكانيّة لضبْطه.
ويُلاحَظ أنّ مُشكلة التحويلات الماليّة غير المشروعة تزداد سنويّا بمُعدّلات مرتفعة حتّى أصبحت تهدِّد، ليس الدول التى خرجت منها هذه الأموال فقط، بل نموّ الاقتصاد العالَمى الذى سجَّل تراجُعا ملحوظا متأثّرا بالأزمات الماليّة والاقتصاديّة المُتتالية، ويصل تأثيرها المُتزايد إلى المُجتمعات الدوليّة جرّاء تفاقُم الجرائم الماليّة العابرة للحدود ومَخاطِر الاحتيال والفساد فى القطاعات المُختلفة.
من هنا جاء تحذير مجموعة البنك الدولى من خطورة تضييع الأموال من خلال التدفّقات غير المشروعة، لأنّها تجد فى الغالب طريقها عبر الحدود لتمويل الجرائم الخطيرة، ومنها المخدّرات وتهريب البشر، مع العِلم أنّ الأهداف الإنمائيّة ترتبط ارتباطا وثيقا بجهود مُكافَحة الفساد، وهو تحدٍّ يتطلّب اليقظة الكاملة على الدوام.
وتبرز أهميّة هذه المشكلة وخطورتها كونها تنمو وتتفاقم فى ظلّ الارتفاع الحادّ فى المديونيّة العامّة الداخليّة والخارجيّة للدول وتداعياتها السلبيّة، مع استمرار العجز الكبير والمُزمن فى موازناتها الماليّة، إلى جانب محدوديّة الطاقة التصديريّة وضآلة القدرة التنافسيّة فى الأسواق الأجنبيّة، وما ينتج عنها من ارتفاعٍ كبير فى عجْز الموازين التجاريّة. ومن الطبيعى أن ينعكس هذا كلّه على مستويات التعليم والصحّة العامّة والاحتياجات الأساسيّة لمقوّمات الحياة الضروريّة، بخاصّة بين الأطفال، الأمر الذى يُسهم فى ارتفاع مستويات البؤس والفقر مع ازدياد معدّلات البطالة ونقْص حجْم الاستثمارات المحليّة والأجنبيّة العامّة والخاصّة على حدّ سواء. وكون هذه التحويلات غير مشروعة، فيعنى أنّها لا تمرّ عبر قنواتٍ رسميّة وأهمّها المصارف الوطنيّة، فهى تنتقّل إلى مَصارِف أو مشروعات استثماريّة أجنبيّة، وقد حرمت البلدان التى خرجت منها من استثمارها، فضلا عن أضرار بليغة نشأت عنها بصورة زيادة ثروات الأغنياء، بغير وجه حقّ وزيادة فقر الفقراء، واتّساع فجوة الدخول بين فئات المجتمع، فضلا عن حرمان حكومات تلك البلدان من الضرائب والرسوم.
ووفق تقرير منظّمة النزاهة الماليّة العالَميّة خسرت الصين 3.79 تريليون دولار على مدى عشر سنوات فى شكل أموال مُهرَّبة من البلاد، وهو مبلغ قد يُضعِف اقتصادها المصنَّف ثانى أكبر اقتصاد فى العالَم بعد الاقتصاد الأميركى، ويُمكن أن يُزعزع الاستقرار السياسى، ويَسمح للأغنياء أن يُصبحوا أكثر ثراء من خلال التهرُّب الضريبى، ويَحرم الدولة من إيرادات ضريبيّة واستثمارات مُحتمَلة.
مؤسسة الفكر العربى- عدنان كريمة