جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2021/12/11
د- يحيى علي السقاف*
من المعلوم بأن الاقتصاد اليمني واجه كماً من المتغيرات السياسية والأمنية والتشريعية والتي كانت لها انعكاساتها المباشرة في رسم ملامح الاقتصاد في المرحلة الراهنة فالاقتصاد اليمني من الاقتصاديات الضعيفة من حيث هياكله الإنتاجية نتيجة تطبيق السياسات الاقتصادية الخاطئة، وقد تأثر بشكل مباشر وغير مباشر من خلال تدهور حاد وعدم استقرار في الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية؛ أفضت إلى خسائر وتكاليف اقتصادية جسيمة ترتب على ذلك بروز عدد من الأزمات في حين تتبنى البلدان سياسات متنوعة بهدف إنجاز أهدافها الاقتصادية الرئيسية، ولعل البنوك المركزية هي أحد أبرز اللاعبين المساعدين في الوصول إلى المحطات المنشودة وذلك عبر سياساتها النقدية التي ترمي إلى الحفاظ على بعض المؤشرات الاقتصادية، وعليه كان من الضروري التحرك إلى بناء اقتصاد قوي والسعي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية واستقرار سعر الصرف، ولا يستقيم ذلك إلا من خلال أهداف وبرامج وسياسات ومعالجات ضرورية .
ونتيجة لذلك نجد أن السياسة النقدية لعبت دوراً بارزاً في تحقيق التنمية الاقتصادية واستقرار سعر الصرف في كثير من الدول، وهذا ما جعلها تتصدر السياسات الاقتصادية الكلية لعدة عقود وتمثل مكانة هامة بين السياسات الاقتصادية في الاقتصاد الحر؛ كون العديد من الدول النامية لا تزال حديثة العهد في عملية إدارة الاقتصاد بالاعتماد بدرجة كبيرة على السياسة النقدية فإن الحاجة تستدعي إيلاء موضوع دراسة السياسة النقدية أهمية كبيرة، وإخضاع تنفيذها بالمراجعة المستمرة حتى يتسنى للمختصين تطويقها وتكييفها مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية المساندة فيها، وتعتبر السياسة النقدية من أهم أدوات السياسات الاقتصادية؛ كونها تشكل إلى جانب السياسات الأخرى آلية خاصة لحماية الاقتصاد الوطني حيث تقوم بالحفاظ على استقرار المستوى العام للأسعار أي ضبط التضخم من خلال الوسائل والأدوات المتاحة لها.
ويقصد بالسياسة النقدية مجموعة الإجراءات والأدوات التي تعتمدها الدولة من خلال السلطات النقدية بهدف التحكم في عرض النقد بما يحقق الاستقرار النقدي للاقتصاد، كما يقصد بها التدخل المباشر المعتمد من طرف السياسة النقدية بهدف التأثير على الفعاليات الاقتصادية عن طريق تغيير عرض النقود وتوجيه الائتمان واستخدام وسائل الرقابة على النشاط الائتماني للبنوك التجارية، ويتفق الاقتصاديون النقديون أن الاقتصاد المعافى يتميز بارتفاع معدلات النمو المستمرة واستقرار أسعار السلع وأسعار صرف العملة الوطنية أمام أسعار صرف العملات الأجنبية وانخفاض معدلات البطالة والفقر والتضخم.
وتحتل السياسة النقدية مكان الصدارة في هيكل السياسات الاقتصادية الكلية منذ أمد بعيد فقد عدها الاقتصاديون الكلاسيك المحور الرئيسي في السياسة الاقتصادية الكلية وكذلك كانت الأداة الرئيسية التي تمكن الدولة من إدارة النشاط الاقتصادي نتيجة لذلك نجد أن السياسة النقدية لعبت دوراً بارزاً في تحقيق التنمية الاقتصادية في كثير من الدول، وهذا ما جعلها تتصدر السياسات الاقتصادية الكلية لعدة عقود، وتمثل مكانة هامة بين السياسات الاقتصادية في الاقتصاد الحر؛ كون العديد من الدول النامية لا تزال حديثة العهد بعملية إدارة الاقتصاد بالاعتماد بدرجة كبيرة على السياسة النقدية فإن الحاجة تستدعي إيلاء موضوع دراسة السياسة النقدية أهمية كبيرة وإخضاع تنفيذها بالمراجعة المستمرة حتى يتسنى للمختصين تطويقها وتكييفها مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية المساندة فيها.
والسياسة النقدية تتمثل في مجموعة من الأدوات المتاحة أمام السلطات النقدية والتي يتم استخدامها من أجل تحقيق الأغراض النهائية وقد تختلف هذه الأدوات من دولة إلى أخرى في ضوء تفاوت النظم السياسية والهياكل الأساسية والترتيبات المؤسسية القانونية ودرجة تطور الأسواق النقدية والمالية، وغير ذلك من الاعتبارات الأخرى، وفي معظم الدول الرأسمالية المتطورة فإن السلطات النقدية تستخدم أداة أو أكثر من الأدوات الرئيسية تتكون الأولى في التغيرات في نسبة الاحتياطي القانوني، والثانية في التغيرات في سعر الخصم وعمليات السوق المفتوحة وفي حالات كثيرة يتم استخدام أدوات تكميلية وهي ما تعرف بأدوات الرقابة المباشرة.
ومن الأدوات غير المباشرة للسياسة النقدية التي تعتمدها السلطات النقدية في إدارة شؤون النقد الائتماني هي سياسة إعادة الخصم ويقصد بسعر إعادة الخصم الفائدة التي يتقاضاها البنك المركزي من البنوك التجارية عندما تلجأ إلى إعادة خصم الأوراق التجارية قصيرة الأجل التي بحوزتها والاقتراض وضمان الأوراق المالية الحكومية من أجل حصولها على موارد نقدية جديدة أو إضافية لتدعيم احتياطاتها النقدية، وبالتالي زيادة مقدرتها على منح الائتمان وخلق ودائع جارية جديدة، ويعتمد سعر إعادة الخصم على عرض وطلب السيولة داخل السوق النقدية؛ أي على الظروف الاقتصادية وحاجة الاقتصاد للسيولة من ناحية وعلى القدرة على الإبقاء بهذه السيولة من ناحية أخرى، وتؤثر سياسة إعادة الخصم على حجم الائتمان المصرفي وبالتالي على العرض النقدي .
ويكون ذلك وفق آلية محددة، وهي في حال إذا شعر البنك المركزي أن العرض النقدي في الاقتصاد قد ارتفع إلى مستوى غير مرغوب فيه؛ مما قد يهدد استقرار مستوى الأسعار فإنه يسارع إلى اتباع سياسة نقدية انكماشية لتقليص الكمية المعروضة من النقد في السوق، حيث يعمل على رفع سعر إعادة الخصم مما يزيد من كلفة الاقتراض، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى تقليل احتياطات البنوك من السيولة النقدية؛ مما يدفعها لرفع أسعار الفائدة على القروض، وهذا الإجراء سيؤدي إلى قلة إقبال الأفراد على الاقتراض؛ لأن العائد المتوقع من استثمار الأموال المقترضة سيكون أقل من السابق، وهذا من شأنه أن يقلل الإنفاق النقدي ويخفف من حدة الضغوط التضخمية، وأخيراً يقلل عرض النقود.
أما في حالة رغبة البنك المركزي في اتباع سياسة نقدية توسعية لزيادة العرض النقدي؛ فإن البنك المركزي يلجأ إلى خفض سعر إعادة الخصم، وهذا بدوره يشجع المصارف التجارية لطلب المزيد من السيولة، وذلك عن طريق تحويل جزء من أصولها المادية إلى نقود قانونية ما دامت تكلفة المحصول عليها منخفضة مما يعمل ذلك على زيادة الاحتياطات النقدية، ومقدرة البنوك التجارية على خلق الائتمان، ويدفعها إلى خفض سعر الفائدة على القروض، وبالتالي زيادة العرض النقدي، وهذا بدوره سيؤدي إلى زيادة الإنفاق ومن ثم الإنتاج والدخل والاستخدام مما يرفع من مستوى النشاط الاقتصادي للدولة.
ويعتبر القطاع المصرفي أحد القطاعات الرائدة في الاقتصاديات الحديثة، ليس فقط لدوره الهام في حشد وتعبئة المدخرات المحلية والأجنبية وتمويل الاستثمار الذي يمثل عصب النشاط الاقتصادي بل لكونه أصبح يمثل حلقة الاتصال الأكثر أهمية مع العالم الخارجي؛ فقد أصبح هذا القطاع بفعل اتساعه وتشعب أنشطته النافذة التي يطل منها العالم علينا ونطل منها على العالم، وأصبح تطوره ومتانة أوضاعه معياراً للحكم على سلامة اقتصادنا وقابليتها أو قدرتها على جذب رؤوس الأموال المحلية والخارجية، وإذا كان القطاع المصرفي واحداً من أهم القطاعات الاقتصادية فإن البنك المركزي يمثل المحور الرئيس لهذا القطاع وزيادة قدرته على المنافسة والتطور، وذلك لما يقوم به من دور في إدارة السياسة النقدية والمصرفية، والحفاظ على الاستقرار المالي، وبالتالي إرساء أسس نمو اقتصادي قابل للاستمرار.
وبالعودة إلى الوراء قليلا والتطرق لنشأة البنوك المركزية باختصار وما تبع ذلك من تطور في مهامها وأهدافها ووسائل تحقيق تلك الأهداف، وذلك للوقوف عن كثب على التطور الذي حدث في الدور الذي تقوم به حيث جاءت نشأة البنوك المركزية متأخرة بعض الشيء عن نشأة البنوك التجارية التي ظهرت في الدول الأوروبية قبل القرن السابع عشر؛ ففي بادئ الأمر كانت البنوك التجارية تقوم بإصدار النقود وتقبل الودائع وتقدم القروض وفي ضوء بساطة وتواضع النشاط الاقتصادي والمالي في تلك الفترة لم تكن هنالك حاجة لوجود هيئة إشرافية تتولى رسم سياسات عامة أو تضع القواعد التنظيمية لعمل البنوك ولكن إفراط بعض هذه البنوك وتوسعها في إصدار النقود أدى إلى حدوث أزمات مالية انعكست سلباً على الاقتصاد .
الأمر الذي استدعى وجود مؤسسة تُعنى بتنظيم النشاط المصرفي وتنظيم عملية إصدار النقود للتحكم بالعرض النقدي، وقد أوكلت هذه المهمة في بادئ الأمر إلى أحد البنوك القائمة، ومع تزايد النشاط الاقتصادي وتزايد احتياجات الحكومات للتمويل وتزايد حركة السلع والأموال عبر الحدود؛ أصبحت المعاملات المصرفية أكثر تعقيداً وظهرت الحاجة إلى وجود هيئة من خارج البنوك لتتولى عملية الإشراف على عمل تلك البنوك وتنظيم العمل المصرفي بالإضافة إلى تنظيم عملية الإصدار النقدي فكانت نشأة البنوك المركزية ومن هنا فإن إنشاء البنوك المركزية إنما جاء للتحكم في عرض النقود وتنظيم إصدارها فدور البنوك المركزية في الاقتصاد هو دور ديناميكي مرّ بتبادلات عديدة منذ نشأتها وحتى الآن ومن الطبيعي أن تواصل تطورها باستمرار طالما تطور هيكل الاقتصاد واتسعت قاعدة الأدوات التي يستخدمها لتنفيذ سياسته النقدية.
وفي هذا السياق حدث تغير ملحوظ في دور البنوك المركزية منذ أوائل الثمانينات، حيث أصبح دور البنك المركزي يتمركز من جديد حول إرساء سياسة نقدية سليمة ذات فاعلية عالية في تحقيق الاستقرار النقدي بالدرجة الأولى، وضمن هذا الإطار انصرفت البنوك المركزية في بعض الدول المتقدمة التي فصلت وظيفة الإشراف والتنظيم عن بنوكها المركزية إلى التركيز على استهداف معدل التضخم كهدف رئيس لسياستها النقدية، وذلك في ضوء تحرير أسواق رأس المال في العالم، أمّا البنوك المركزية التي تتولى مهام التنظيم والرقابة على البنوك فتعتبر مسئولة عن توفير البيئة المصرفية المناسبة وعن ضمان سلامة الأوضاع المصرفية إلى جانب رسم وتنفيذ السياسة النقدية وبالنتيجة فقد أصبحت السياسة النقدية ورغم مرورها بالعديد من التحولات تركّز على الاستقرار النقدي .
وكما هو الحال لدى البنوك المركزية في العالم فقد أصبح تحقيق الاستقرار النقدي يعتلي سلم أولويات السياسة النقدية للبنك المركزي اليمني في المرحلة الحالية ونقصد بالاستقرار النقدي هنا استقرار المستوى العام للأسعار واستقرار سعر صرف العملة الوطنية وتوفير هيكل أسعار فائدة ملائم، هذا فضلاً عن توفير المتطلبات المالية للنشاط الاقتصادي فالاستقرار النقدي يعتبر أحد أهم أركان البيئة الجاذبة للاستثمارات سواءً كانت محلية أم أجنبية وهذه الاستثمارات هي المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي، وبهذا يكون الدور الذي يلعبه البنك المركزي في النمو الاقتصادي دوراً غير مباشر، وإذا كان تحقيق الاستقرار النقدي يمثل المرتكز الرئيسي للسياسة النقدية في الوقت الراهن؛ فإن البنك المركزي لم يغفل الجانب التمويلي للأنشطة الاقتصادية، وإنما غير من منهجية التعامل معه؛ فبدلاً من التركيز على توفير التمويل اللازم للاستثمارات بأسعار فائدة تفضيلية والتي غالباً ما كانت تتم من خلال إجراءات إدارية تحد من كفاءة تخصيص الموارد أصبح الاهتمام في الوقت الراهن يرتكز على توفير البيئة المصرفية المناسبة التي تساعد على تسهيل عمليات الوساطة المالية.
فالبنك المركزي يؤمن بأن البيئة المصرفية التي تمكن المؤسسات المصرفية المختلفة من التنافس بحرية وعلى أسس متكافئة هي البيئة المناسبة التي توفر التمويل للنشاط الاقتصادي بالحجم والكلفة المناسبين استناداً إلى قوى السوق وهي التي ترفع من كفاءة استخدام الموارد المالية، وعلى عكس ذلك فقد أثبتت التجربة العملية على مدى عقدين ونيف من الزمن أن الإجراءات الإدارية لم تؤد إلى تحفيز الاستثمار في المجالات المرغوبة ومن ثم تشجيع النمو الاقتصادي بقدر ما أدت إلى إساءة استخدام الموارد وتكريس بعض السياسات الاقتصادية الخاطئة، وعليه فإن البنك المركزي تخلى نهائياً عن التدخل في إدارة المحافظ المالية للبنوك وقصر دوره التنظيمي على الإجراءات التنظيمية التي تضمن سلامة الوضع المالي لمؤسسات الجهاز المصرفي وتعزيز منعتها لتمكينها من المنافسة على الصعيدين المحلي والخارجي، والى جانب ذلك فإن البنك يولي أهمية خاصة لتطوير القطاع المصرفي من الناحيتين المؤسسية والنوعية لتمكينه من القيام بدوره المناسب في خدمة الاقتصاد الوطني.
ويتفق الاقتصاديون النقديون على أن الاقتصاد المعافى يتميز بارتفاع معدلات النمو المستمرة واستقرار أسعار السلع والخدمات واستقرار أسعار صرف العملة الوطنية أمام أسعار صرف العملات الأجنبية وانخفاض معدلات البطالة والفقر والتضخم، ويجب على السلطة النقدية في هذا السياق انتهاج سياسة توسعية وتطويرية لأدوات الدفع لتأسيس مصارف إسلامية جديدة على شكل شركات مساهمة لأنها تتناسب مع قيم المجتمع اليمني، وكذلك على الجهات المختصة إنشاء صناديق استثمارية مشتركة ودعوة أفراد المجتمع للاكتتاب فيها، وتأسيس بنوك وطنية تعمل على دعم المنتج المحلي في الجانب الزراعي والصناعي لزيادة الطاقة القصوى من الإنتاج المحلي، وتوفير وسائل دفع جديدة كالمصارف المتحركة وأجهزة الإيداع الآلي حتى يتم السيطرة على الكتلة النقدية المتداولة خارج الجهاز المصرفي لأنها تمتلك فوائض نقدية كبيرة في خزانتها وخزائن البنك المركزي اليمني والبحث عن أدوات غير تضخمية لتمويل عجز الموازنة العامة وإصدار أدوات تمويلية بأسعار فائدة صفرية وإلزام بعض المؤسسات التابعة للحكومة للاكتتاب فيها والكثير من الإجراءات الضرورية الأخرى التي لا يتسنى لنا سردها في هذا المقال .
وكيل وزارة المالية- كاتب وباحث في الشأن الاقتصادي- رئيس المركز الاستراتيجي اليمني للدراسات والأبحاث*