بنوك أجنبية

  • شارك:

إصلاح المصارف في لبنان يصطدم بتضارب المصالح في "الدولة العميقة"


جمعية البنوك اليمنية - صنعاء     بتاريخ: 2025/04/14

 

تزداد الضغوط الدولية والمحلية على السلطات اللبنانية لاتخاذ خطوات إصلاحية ملموسة تعيد الحد الأدنى من الثقة إلى النظام المالي، وتفتح المجال أمام أي دعم خارجي محتمل، وفي مقدمته الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وفي هذا السياق، تطفو إلى الواجهة قضيّتان أساسيتان تعتبران من ركائز الإصلاح: تعديل قانون السرية المصرفية المُعتمد منذ عام 1956، وإقرار قانون "إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها"، بهدف إعادة هيكلة القطاع المصرفي المتعثر ووضع إطار قانوني لإدارته بشكل فعّال.
هذه الخطوات، التي تُقدَّم استجابةً لمطالب صندوق النقد الدولي، تواجه عقبات سياسية وقانونية تعكس عمق الصراعات الداخلية وتشابك المصالح بين مختلف الأطراف. فبينما يُنظر إلى تعديل قانون السرية المصرفية بوصفه مدخلاً أساسياً لتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، أثارت صياغته الحالية جدلاً واسعاً حول محدودية مفعوله وصلاحيات الجهات الرقابية. أما مشروع قانون إعادة تنظيم القطاع المصرفي، فرغم أهميته، تعرقل مساره نتيجة الخلاف على نسخة جديدة طُرحت فجأة من دون توافق مسبق، ما يزيد من الغموض حول مدى جدية الإصلاحات المنتظرة قبيل الاجتماعات الحاسمة مع صندوق النقد في واشنطن.
في السياق، صرّح الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن صندوق النقد الدولي والمبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس يطالبان، منذ انتخاب رئيس الجمهورية جوزاف عون، بإقرار قانون السرية المصرفية، وإعادة هيكلة القطاع العام، بالإضافة إلى تنفيذ التعهدات السابقة من قبل وزير المالية، مشيراً إلى أن لبنان يتحضر لاجتماعات صندوق النقد الدولي في واشنطن في 21 من الشهر الحالي، وهو أمر بالغ الأهمية.
وأضاف أبو شقرا أن لبنان قد عدّل قانون السرية المصرفية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إلا أن التعديل لم يرضِ صندوق النقد الدولي حينها، ما دفعه إلى المطالبة مجدداً بتعديل الفقرتين (هـ) و(و) من المادة السابعة، والتي تنص على السماح لهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، برفع السرية المصرفية ضمن إطار عمليات إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
وقال قدّمت الحكومة اللبنانية مشروع قانون جديداً بهذا الخصوص، ويُعدّ هذا القانون مرتبطاً بشكل كبير بمكافحة الفساد في لبنان، ولا سيما في ظل عملية إعادة الهيكلة، التي تتطلّب الاطلاع على الحسابات والتدقيق بها من دون تعقيدات. ففي السابق، كان الوصول إلى المعلومات المصرفية ورفع السرية يتطلّب قراراً قضائياً بعد موافقة مصرف لبنان، وحتى بعد الموافقة، لم تكن المعلومات تُفشى بشكل كافٍ، كما حصل خلال عملية التدقيق الجنائي والمشكلات التي ظهرت خلال ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة.
السرية المصرفية سبب في تدفق الرساميل إلى لبنان
وعن تأثير تعديل قانون السرية المصرفية على مناخ الاستثمار في لبنان، أوضح أبو شقرا أن هناك تخوفاً لدى البعض، لأن السرية المصرفية كانت سبباً في تدفق الرساميل إلى لبنان، خصوصاً من دول الجوار. غير أن تطوّر القوانين المالية والرقابية عالمياً، وتراجع جاذبية القطاع المصرفي اللبناني، جعلا من الصعب جذب هذه الرساميل من جديد.
وأضاف: "القطاع المصرفي اللبناني، أو السرية المصرفية التي ساعدت في فترات سابقة على جذب الأموال، تحوّلت اليوم إلى عبء يُغذّي الفساد، وبالتالي فإن إلغاء هذه السرية قد تكون له نتائج إيجابية أكبر من بقائها، لأنها لم تعد تملك الفعالية نفسها، خاصة في ظل فقدان الثقة بالداخل". أما عن التأثير الحقيقي على حجم القطاع المصرفي، فأوضح أبو شقرا أنه سيكون نتيجة إعادة الهيكلة وتوزيع الخسائر، حيث يُتوقع أن تخرج العديد من المصارف من السوق لعجزها عن تلبية متطلبات إعادة الهيكلة، ورفع سيولتها، وجذب الرساميل.
من جانبه، صرّح الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أنيس أبو دياب، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن القطاع المصرفي كان قد أصدر مذكرة صادرة عن المكتب القانوني لجمعية المصارف، تتألف من 12 صفحة، يعترض فيها على نحو 27 مادة من أصل 39 مادة. وأشار إلى أن جزءاً كبيراً من القطاع المصرفي، كما من الهيئات الاقتصادية، وعدداً غير قليل من العاملين في القطاع العام، لا مصلحة لهم في حصول إصلاح فعلي، نظراً إلى تأثر مصالحهم بشكل مباشر أو غير مباشر.
وأوضح أبو دياب أن "قسماً من هذا القطاع يزدهر بفضل اقتصاد الكاش، الناتج عن التهرب الجمركي والضريبي، بالإضافة إلى استفادات غير شرعية تُمارس على حساب المؤسسات الرسمية"، مشيراً إلى أن أهم التعديلات المطروحة في قانون رفع السرية المصرفية، هي إمكانية توسيع قاعدة من يحق له الاطلاع على الحسابات المصرفية من خلال لجنة الرقابة على المصارف، والهيئات الضريبية والهيئات الرقابية الأخرى. ولفت إلى أنه كان هناك حرية للاطلاع فقط على بعض الحسابات المدينة، أما اليوم فأصبح هناك حرية الاطلاع على الحسابات المدينة والدائنة، بينما أن المصارف التجارية تحاول جاهدة التصدي لأي إصلاح يمكن أن يطاول هذا الإطار.
وأضاف أن المصارف التجارية تتعامل مع قانون رفع السرية المصرفية وكأنه ضربة موجهة ضد جذب المودعين، حيث يعتقد بعض المصرفيين أن السرية المصرفية كانت من العوامل الأساسية عام 1965 عند إقرار القانون، ما ساهم في جذب الودائع آنذاك، لكن اليوم، في ظل التطورات النقدية والمالية العالمية والتطور التقني الكبير، فقد هذا القانون قيمته وأهميته الأساسية.
واعتبر أبو دياب أن تطبيق هذا القانون من شأنه أن يساهم في كشف الحسابات المشبوهة، وبالتالي يُعد خطوة إصلاحية تسهم في تسريع التدقيق في الحسابات، وتقلل من حجم اقتصاد الكاش في السوق، متمنياً أن تكون هذه القوانين متكاملة، بدءاً من قانون السرية المصرفية، مروراً بإعادة هيكلة القطاع، وصولاً إلى تحقيق التوازن المالي، وردم الفجوة بين احتساب الخسائر وآليات توزيعها، مشيراً إلى أن هذه الإجراءات كان من المفترض أن تتم منذ سنتين، لكن الضغط الحالي ناتج عن الاجتماع المرتقب في واشنطن في 21 من الشهر الجاري.
أما في ما يخص القانون الجديد، فأوضح أنه لا يمنح صلاحيات استثنائية، بل يعطي لجنة "هيكلة المصارف" صلاحية دراسة ملفات المصارف، وهي نقطة خلافية تتمثل في عدد الأعضاء (6 أو 8) ومن يرشح الأسماء، هل هو مصرف لبنان أم بعض الوزارات المعنية؟ مع التأكيد أن مصرف لبنان يتمتع باستقلالية كبيرة جداً بموجب قانون النقد والتسليف، ولا يحتاج إلى صلاحيات استثنائية إضافية، بل فقط إلى تفعيل القوانين وتطبيقها.
وفي هذا الإطار، أشار أبو دياب إلى أن قانون تنظيم التوازن المالي والمالية العامة هو الذي سيؤمن هذه الصلاحيات للمودعين، لافتاً إلى أنه لا يمكن تجاهل تعهّد رئيس الجمهورية في خطاب القسم بإعادة كل أموال المودعين. وأضاف أن "التحدي الأكبر يكمن في كيفية استعادة المصارف ثقة المودعين، سواء اللبنانيين غير المقيمين أو الأجانب والعرب، إلى جانب ضرورة جذب رساميل جديدة، واستعادة العلاقات مع المصارف المراسلة، وهذه هي الضمانة الأكبر للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وحينها سيتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود".
واعتبر أن هناك تحديات كبيرة أمام المصارف لإعادة تمويل الاقتصاد، ما يستوجب إعادة النظر في مجالس الإدارة والمساهمين الكبار، مشدداً على "ضرورة الإسراع في إقرار استقلالية القضاء، لأن القوانين وحدها لا تكفي، فإذا لم يكن القضاء مستقراً فلن يتغير شيء فعلياً".
تهريب أموال وعمليات مصرفية غير شرعية
في سياق متصل، رأى الخبير المصرفي بهيج الخطيب، في تصريحات خاصة، أن صندوق النقد الدولي، بصفته الجهة المعنية بمساعدة الدول المتعثرة جراء الأزمات النقدية والمصرفية، يطلب من الدول تصحيح هذه المشكلات، وفي حالة لبنان، كان مجرد إقراره لقانون السرية المصرفية عام 1956 يُعتبر إنجازاً بحد ذاته في تلك المرحلة، لكن ظروف الأمس تختلف كلياً عن ظروف اليوم، حيث كانت الطفرة النفطية في الخليج عاملاً جاذباً، وكانت الأنظمة الاشتراكية سائدة في عدد من الدول العربية، ما دفع العديد من رؤوس الأموال إلى الهروب إلى لبنان وفتح حسابات مصرفية بأسماء سرية.
أما اليوم، فلم يعد لبنان في حاجة إلى قانون السرية المصرفية، بل بات هذا القانون يشكل عبئاً على الدولة، ويفتح المجال أمام تهريب الأموال إلى الخارج. لهذا السبب، يُصرّ صندوق النقد على تعديل القانون، أو تفريغه من مضمونه، لضمان الشفافية ومكافحة الفساد. وشدّد الخطيب على ضرورة تعديل القانون لتمكين الجهات المختصة من الوصول إلى الحسابات المصرفية، مؤكداً أن الأمر لا يُعدّ أداة ضغط خارجي، بل ضرورة لتصحيح مسار اقتصادي خاطئ.
وحول تهريب الأموال والعمليات المصرفية غير الشرعية، اعتبر أن الدولة اللبنانية مطالبة بإظهار جدية في تعديل القانون، لكن التدخلات مما وصفه بـ"الدولة العميقة" قد تعيق هذه العملية، مضيفاً أن "لبنان يعاني منذ ست سنوات من أزمة خانقة، تأخّر في معالجتها بسبب فساد الطبقة السياسية، التي لم تتوافق بعد على حلّ عادل يحمي أموال المودعين، بل تركز جهودها على إعادة هيكلة القطاع المصرفي، متجاهلة الحاجة إلى استعادة السيولة والثقة".
وأشار إلى أن الأموال الموظفة في مصرف لبنان تُعدّ التزامات على الدولة، ولا يجوز اعتبارها خسائر تُطفأ، لأن ما يُسمى بـ"الفجوة المالية" هو في الواقع نتيجة سوء توظيف في الديون السيادية، وليس انعداماً للأموال، لافتاً إلى أن المؤسسات كالبنوك المركزية تعتمد في مقاربتها على أصول قانونية واقتصادية واضحة.
وعن خطط إعادة الهيكلة، شدّد على أهمية التمييز بين تقييم موجودات المصارف والسؤال الجوهري: هل هذه الأصول لا تزال موجودة؟ أم أن جزءاً كبيراً منها تبخّر؟ واقترح إعطاء المصارف الوقت الكافي لإعادة تكوين هذه الأصول، على أن تُحال على التصفية إذا عجزت عن ذلك.
وتابع قائلاً: "الموجودات ليست ديوناً معدومة، بل هي أموال قائمة، لكن الدولة تمتنع حتى اليوم عن إقرار مشاريع إصلاحية وخطط تعافٍ تُنتج فوائض في المستقبل تُستخدم لسداد ديون مصرف لبنان وحملة اليوروبوندز وضخ السيولة في الاقتصاد". وأكد أن ذلك سيساهم في إعادة الثقة بالمصارف إذا ترافق مع تعهد رسمي من الدولة بدفع ودائع المصارف التي خضعت للتصفية أو الاندماج.
وحذّر الخطيب من تداعيات فشل لبنان في تنفيذ هذه الإصلاحات، قائلاً إن المصارف قد تعلن حينها إفلاسها، ما سينعكس سلباً على الودائع وسمعة لبنان مكاناً آمناً للمدخرات. ودعا إلى المضي بخطط إصلاحية متوازية تبدأ بإقرار قوانين إصلاح الاقتصاد، واستقلالية القضاء، وجدولة الدين العام، وإعادة رسملة المصارف.
وفي ما يتعلق بكيفية توزيع الخسائر وحماية حقوق المودعين، أكد أن الالتزامات ليست خسائر، ومن ثم لا يجوز إعلان مصرف لبنان أو الدولة اللبنانية مفلسين، لافتاً إلى ضرورة عدم التفريق بين "صغار" و"كبار" المودعين، لأن "المودع هو مودع"، على حدّ تعبيره، معتبراً أن هذا التصنيف يدخل في سياق الطروحات الشعبوية التي لا تعالج جوهر الأزمة.

المصدر- العربي الجديد

جمعية البنوك اليمنية   جمعية البنوك اليمنية

رابط مختصر:
UP