جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2025/07/27
عبدالرحمن أحمد الحكيم
-خطورة الضباب الرقمي لا تكمن في غياب الجهد، أو نقص الأدوات والتكنولوجيا، بل في غياب الرؤية وافتقاد التناسق والتحليل الفعال للأعمال والهيكلية الصحيحة للأنظمة
-أكثر المفاهيم المغلوطة التي تُعيق التحول الرقمي الحقيقي هو مفهوم اختزاله في مشروع تقني تُديره إدارة تقنية المعلومات
في الآونة الأخيرة، ومع تسارع التغيّرات على المستويَين المحلي والعالمي، باتت مفردات مثل: الذكاء الاصطناعي، الأنظمة السحابية، أتمتة العمليات، والتحوّل الرقمي ضيفًا دائم الحضور في كل اجتماع أو نقاش. تتكرر هذه المصطلحات على ألسنة الجميع، في سعي واضح من الإدارات التنفيذية إلى تحديث الخدمات، وتوسيع نطاق المنتجات، وتعزيز فرص البقاء، والنمو، والاستدامة. ومع كل هذا الحراك، يظل هناك سؤال جوهري يُلحّ علينا: هل يكفي كل هذا الحضور التكنولوجي لصناعة تحوّل رقمي حقيقي وفعّال؟
وهم التحوّل: الضباب الرقمي
في كثير من المؤسسات، خاصة في بيئتنا المحلية، يحدث ما يشبه الانزلاق الهادئ نحو ما يمكن تسميته بـ"الضباب الرقمي".
تبدأ الحكاية بحماس تقني. مشاريع تُطلق، ميزانيات تُخصّص، عقود تُوقّع، وتُنشَر التطبيقات والواجهات على عجل، وتُؤتمت العمليات دون مرجعية أو معايير واضحة. كل ذلك يجري في ظل غياب رؤية موحّدة أو إطار تنسيقي يربط بين هذه الخطوات المتناثرة.
ما يبدو في البداية كموجة تحديث مشجعة، سرعان ما ينكشف مع مرور الوقت عن جهود متفرقة وأهداف تائهة. تظل الاستراتيجية حاضرة في الوثائق، لكنها غائبة عن أرض الواقع. وتُستنزف الطاقات في مشاريع لا تتصل ببعضها، بينما الإدارات تتحرك وفق أولويات متباينة لا يجمعها هدف موحد. الجميع يعمل، لكن الوجهة غير معلومة.
في مثل هذا المشهد، تبدو الاستراتيجية وكأنها وثيقة مؤرشفة أكثر منها خارطة طريق حية تقود العمل اليومي.
وهنا تبدأ ملامح الضباب في الظهور - الأنظمة لا تتكامل، المبادرات تتكرر أو تتعارض، الفرق تعمل في مسارات متوازية لا تتقاطع، والقرارات تُتخذ بمعزل عن فهم مشترك أو منظور مؤسسي موحّد.
الأخطر أن هذه الحالة لا تُكتشف مبكرًا. تمر الأيام والأسابيع، وربما الشهور، قبل أن تستشعر الإدارة التنفيذية أن شيئًا ما ليس على ما يرام. تتراكم مشاعر الإحباط، تتبخر التوقعات، وتبدأ الأسئلة الصعبة في الظهور: لماذا لا نرى الأثر؟ أين الخلل؟ وهل كنا نتحرك فعلاً… أم ندور في حلقة مفرغة؟
يشبه الأمر البدء ببناء مجمّع ضخم دون مخطط معماري شامل؛ حيث كل قسم يبني على هواه، يضع الجدران ويُدخل المعدات، بينما لا أحد يعلم كيف ستُربط الأجزاء، أو ما إذا كانت الأعمدة تتحمل الطوابق القادمة.
أو كأننا أمام سفينة انطلقت إلى عرض البحر بلا خريطة واضحة، الكل يعمل، المحركات تدور، الأشرعة ممدودة، لكن لا أحد يعرف الوجهة. كل قسم يرى نفسه في مركز القيادة، بينما القبطان غائب أو صوته لا يُسمع.
وهنا تكمن خطورة "الضباب الرقمي": ليس في غياب الجهد، بل في غياب الرؤية. ليس في نقص الأدوات والتكنولوجيا، بل في افتقاد التناسق والتحليل الفعال للأعمال والهيكلية الصحيحة للأنظمة. فحتى الفرق الموهوبة، إن لم تُجمع على لحن واحد، لن تنتج موسيقى… بل ضجيجًا. وحتى أعظم الأدوات والأنظمة، إن لم توجَّه بخطة واضحة، تصبح عبئًا بدل أن تكون رافعة.
في هذه الأجواء، تتحول المؤسسة إلى بيئة يغيب فيها التناغم، وتتداخل فيها الأصوات، وتتنافس بدل أن تتكامل. وينتشر منطق "كلٌ يعمل بطريقته"، دون وجود نغمة موحّدة أو قيادة تُلهم وتنسّق وعندها فقط، يظهر السؤال الحقيقي: ما الذي ينقصنا؟
التحول الرقمي ليس مشروع IT .. بل رحلة مؤسسية شاملة
واحدة من أكثر المفاهيم المغلوطة التي تُعيق التحول الرقمي الحقيقي هي اختزاله في مشروع تقني تُديره إدارة تقنية المعلومات.
هذا التصوّر يحصر التحول داخل حدود التكنولوجيا، وكأن المطلوب هو شراء الأنظمة وتثبيتها فقط.
ورغم أن الـ IT شريك أساسي، وتقوم بدور محوري في البنية التحتية والتكامل والتشغيل، إلا أن التحول الرقمي ليس مسؤولية تقنية بحتة. ما يحدث فعليًا في هذه الحالة هو نوع من "الرقمنة الجزئية"، أو تحسينات تشغيلية محدودة، قد ترفع الكفاءة مؤقتًا… لكنها لا تصنع تحولًا رقميًا حقيقيًا.
التحول الرقمي الفعّال لا يمكن أن ينجح إذا بقي محصورًا في دائرة المعلوماتية. بل هو رحلة مؤسسية شاملة (Cross-Function) تتقاطع فيها الاستراتيجية مع الثقافة، والبنية المؤسسية مع تجربة العميل، والموارد البشرية مع نماذج الأعمال.
فالنطاق يتعدى الجانب التقني ليشمل المنظومة بالكامل: ثقافة العمل، الهيكل، الأداء، والناس.
كما أن التحول يمس جوهر العمل المؤسسي، ويتطلب انخراط جميع الإدارات: من الموارد البشرية والمالية، مرورًا بالتسويق والمبيعات، ووصولًا إلى خدمة العملاء. ويتطلب أيضا قيادة عمليات التحول عبر المؤسسة ككل، بحيث تكون الأتمتة والرقمنة منسقة ومرجعية وواضحة.
كل إدارة معنية، وكل دور له أثر. فالتحول الرقمي ليس فقط في الأدوات، بل في طريقة التفكير، ونموذج العمل، وفي كيف ولماذا نقدّم ما نقدمه.
ولهذا، لا يمكن معالجة كل ذلك من خلال إدارة المعلوماتية وحدها، مهما بلغت كفاءتها أو خبرتها.
وهنا تبرز الحاجة إلى وجود قيادة واضحة ومُمكَّنة للتحول الرقمي - لا تعمل بديلاً عن الإدارات، ولا بمعزل عنها، بل تقف في موقع التنسيق والتوجيه والشراكة.
قيادة تُجيد التعامل مع التباين بين الإدارات، وتربط الجهود، وتُزيل التداخل، وتُسهّل اتخاذ القرار المشترك، بما يضمن أن كل مبادرة رقمية تنطلق ضمن رؤية موحّدة تخدم الهدف الأوسع للمؤسسة.
مشاركة الإدارات في التحول ليست خيارًا إضافيًا، بل ضرورة جوهرية. لكنها لا تحدث تلقائيًا، ولا تنجح في بيئة تفتقر إلى جهة تيسّرها وتتابعها.
وهنا يأتي الدور الحاسم لمكتب/إدارة التحول الرقمي أو المسؤول المكلّف بقيادته - كجهة تعمل جنبًا إلى جنب مع إدارة المعلوماتية، وبالتوازي مع مختلف الإدارات، لخلق مناخ تكاملي يعكس الطابع المؤسسي للتحول.
وهذا المفهوم لم يعد نظريًا، بل نراه مطبقًا في العديد من المؤسسات الرائدة في المنطقة. على سبيل المثال، بنك أبوظبي الأول وبنك الراجحي كلاهما يملكان قيادة تنفيذية متخصصة للتحول الرقمي، تتبع مباشرة للإدارة العليا وتُشرف على المبادرات الرقمية في مختلف القطاعات.
وفي قطاع الاتصالات، نجد شركات مثل اتصالات (e&) وزين السعودية قد أنشأت وحدات مستقلة للتحول الرقمي، بقيادة مسؤولين رقميين لديهم صلاحيات واضحة، ما مكّنهم من تحقيق نتائج ملموسة في أتمتة الخدمات وتقديم حلول رقمية متقدمة.
هذه النماذج تُثبت أن وجود قيادة رقمية مستقلة ومنسقة لم يعد رفاهية، بل ركيزة أساسية لضمان نجاح أي تحول رقمي حقيقي.
بل أنه بهذا التوازن، لا يُحمّل أحد فوق طاقته، ولا تضيع المبادرات في فوضى الأولويات. بل يتحول التحول الرقمي من سلسلة مشاريع منفصلة إلى مسار واحد منضبط، يقوده تنسيق حقيقي، ويُترجم إلى أثر ملموس يمكن قياسه وقيادته.
قيادة التحول الرقمي.. حجر الأساس للنجاح
نجاح التحول الرقمي لا يرتبط بعدد المشاريع أو حجم الاستثمارات التقنية، بل بوجود قيادة واضحة ومُمكّنة تقود هذا التحول على مستوى المؤسسة.
هذه القيادة يجب أن تكون مستقلة في دورها، لكنها متصلة وظيفيًا بكل الإدارات. تعمل بالتوازي مع تقنية المعلومات، وتنسّق بشكل فعّال مع الموارد البشرية، والمالية، والعمليات، والتسويق، وغيرها من الوحدات المحورية.
دورها لا يتمثل في تنفيذ الحلول الرقمية بنفسها، بل في توجيه الجهود، وتسهيل التنسيق، وإزالة العوائق، وتسريع اتخاذ القرار. الهدف هو ضمان أن كل مبادرة رقمية تنطلق من رؤية موحدة وتخدم أهدافًا استراتيجية واضحة، لا تتحرك بمعزل عن السياق المؤسسي العام.
هذه الجهة، سواء كانت مكتب التحول الرقمي أو مسؤولًا تنفيذيًا معنيًا بقيادته، يجب أن تمتلك رؤية مؤسسية شاملة، وقدرة على التنسيق الأفقي بين الفرق، وفهمًا حقيقيًا للتقنية كوسيلة، دون الانشغال بتفاصيلها الفنية اليومية.
بدون هذا النوع من القيادة، تتفكك جهود التحول، وتضيع الأولويات، وتُستهلك الموارد في مسارات متباعدة، فينخفض الأثر وتتباطأ النتائج.
لذلك، فإن وجود قيادة مؤسسية مخصصة للتحول الرقمي لم يعد خيارًا تنظيميًا، بل شرطًا أساسيًا للنجاح والتنفيذ الفعّال في أي مؤسسة تطمح إلى مستقبل رقمي مستقر ومستدام.
خاتمة:
في النهاية، ما تحتاجه المؤسسات اليوم ليس المزيد من المشاريع، ولا التركيز المفرط على اقتناء الأنظمة، بل مراجعة دقيقة لما يُنفّذ، ولماذا يُنفّذ، ومدى ارتباطه بالرؤية الاستراتيجية وتكامل الجهود المؤسسية حوله.
ولهذا، فإن وجود قيادة رقمية مُمكّنة، تتحدث بلغة الأعمال، وتُنسّق عبر الإدارات، وتربط التكنولوجيا بالنتائج، لم يعد خيارًا تنظيميًا بل ضرورة استراتيجية.
فالتحول الرقمي لم يعد مشروعًا تقنيًا محدود النطاق؛ بل أصبح محورًا رئيسيًا في استدامة المؤسسة، وقدرتها على التكيّف، والنمو، وتحقيق ميزة تنافسية في بيئة سريعة التغير.
ومن دون قيادة رقمية قادرة على توحيد الرؤية، واختراق الضباب، وتحويل الجهود إلى نتائج قابلة للقياس… يبقى التحول مجرد حركة بلا اتجاه.