جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2021/04/16
يمرّ الاقتصاد التركي منذ خمسة أعوام بظروف استثنائية قلما تكون في اقتصادات أخرى، إذ هناك ازدواجية محيرة بين انخفاض حادّ متتالٍ في سعر صرف العملة المحلية الليرة، بالتوازي مع تحسن كبير ومستمر لمؤشرات الاقتصاد الرئيسية، وهو الأمر الذي يدفع نحو التساؤل هل الاقتصاد التركي مأزوم؟ وماذا يحتاج لكي يخرج من هذه الازدواجية؟
انخفاضات متتالية لليرة
مع نهاية مارس/ آذار الماضي، أقال الرئيس رجب طيب أردوغان، محافظ البنك المركزي، مما تسبب في انهيار سعر صرف الليرة بمعدل 17% دفعة واحدة، ليقضي ذلك على كلّ المكاسب التي حققتها الليرة منذ مطلع العام الحالي، وليولّد تشاؤماً كبيراً حول استقرارها، لا سيما بعد سنوات عدة من عدم قدرة السياسة النقدية على الحفاظ على استقرار سعرها، أو حتى تخفيض معدلات تقلباتها، وهو الأمر الذي أدى إلى تآكل احتياطيات النقد الأجنبي، التي استُهلكت في مباراة غير متكافئة مع الديون الضخمة للشركات المحلية.
ولا شك في أنّ تتالي انخفاض الليرة التركية قد أسهم في زيادة أعداد السياح، علاوة على تزايد الصادرات بمعدلات قياسية، لكنّه، في الوقت نفسه، أثّر سلبياً في نظرة المستثمر الأجنبي للأوضاع الداخلية للاقتصاد التركي، لا سيما بعد الخلافات التي طفت على السطح، بين أردوغان ومحافظي البنك المركزي الثلاثة، الذين جرت إقالتهم في أقل من عام ونصف العام، وهي الخلافات التي ترتكز على رؤية الرئيس للدور السلبي لسعر الفائدة على النشاط الاقتصادي ومعدل التضخم، وهو الأمر الذي يتعاكس مع استقرار الأموال الساخنة التي تعد وازناً حيوياً لسعر الليرة.
لم يحسم هذا الخلاف حتى الآن، وحتى المحافظ الجديد الذي جاء من خلفية أكاديمية اعتقد أنّه في حيرة شديدة لا سيما بعد الانخفاض الحاد لليرة في مطلع ولايته، وكذلك بعد الزيادة الملحوظة في سعر الفائدة على السندات الأميركية، وهو ما ترتب عليه نزوح الاستثمارات في أدوات الدين المحلية من الأسواق الناشئة وفي مقدمتها تركيا إلى البلدان الغربية، ما أدى إلى نزوح أكثر من 2.5 مليار دولار من الاحتياطي النقدي التركي في أسبوع واحد فقط طبقاً للتقرير الشهري للبنك المركزي.
تعافٍ ومؤشرات برّاقة بعد كورونا
تتوازى تراجعات الليرة والخلافات النقدية مع مؤشرات اقتصادية براقة للاقتصاد التركي خلال الفترة نفسها، فقد زادت الصادرات من 140 مليار دولار تقريباً عام 2016 إلى 180 مليار دولار عام 2019، قبل أن تتراجع في عام كورونا إلى 164 مليار دولار، ثم يبدأ العام الحالي بأرقام صادرات غير مسبوقة، ربما تسبق الوعود الحكومية التي تأمل في بلوغ قيمتها 180.4 مليار دولار.
وطبقاً للإحصائيات الرسمية الأخيرة، فقد تجاوزت الصادرات التركية 50 مليار دولار في الربع الأول من العام الحالي، بمعدل زيادة 17.2% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وحققت تركيا رقماً قياسياً لصادراتها في مارس/ آذار الماضي والتي بلغت 18.985 مليار دولار بمعدل زيادة 42.2% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.
كما استطاعت تركيا، في ظلّ الإغلاق العالمي الناتج عن تداعيات فيروس كورونا، استقطاب 15 مليون سائح، وطبقاً لسير الأمور حالياً فإنّ من المقدر أن يتجاوز عدد السائحين 25 مليوناً في العام الحالي، وبالطبع يعدّ ذلك أقل كثيراً من عام ما قبل كورونا، وكذلك أقل كثيراً عن بلوغ هدف 75 مليون سائح بحلول 2023.
هذه النجاحات على المستوى الإنتاجي والتصديري، علاوة على قدرات القطاع الطبي التركي الذي استطاع استيعاب أزمة كورونا بكفاءة وفاعلية، دفعت معدل النمو إلى الإيجابية خلال العام الماضي، محققاً ثاني أعلى معدل نمو بين دول مجموعة العشرين بقيمة 1.8%، ثم تدفقت التوقعات المتفائلة لهذا المعدل في العام الحالي من المؤسسات الدولية.
ومؤخراً، عدّل البنك الدولي توقعاته بشأن نموّ الاقتصاد التركي لعام 2021، متوقعاً أن يحقق نمواً بنسبة 5%، عوضاً عن توقعات سابقة أفادت بنموه بنسبة 4.5% فقط، وسبقته وكالة "ستاندرد آند بورز الدولية للتصنيف الائتماني" في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي بالإبقاء على التصنيف الائتماني لتركيا مع نظرة مستقبلية مستقرة، هو ما يعني أنّ الأوضاع المالية تتحسن بشكل ملحوظ.
كلّ ذلك علاوة على مجموعة من التقارير الدولية الأخرى التي بشرت كذلك بأداء مميز للاقتصاد التركي خلال العام الحالي، وأكدت على الاتجاه التصاعدي لمنحني النمو خلال العامين الحالي والمقبل، فهذه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تشيد بإصلاحات أنقرة في المجال الاقتصادي، وترحب بالإجراءات الاقتصادية التي عززت انتعاش الاقتصاد وأبعدته عن الضغوط السلبية لجائحة كورونا، وتلك مؤسسة "فيتش للتصنيف الائتماني" تضع توقعات متفائلة بشأن الاقتصاد التركي خلال العام الجاري، مشيرة إلى أنّه مع تسارع انتعاش الاقتصاد الأوروبي واستمرار التطعيم ضد كورونا سيتسارع نمو الاقتصاد التركي وقدرته بنحو 3.5% خلال العام المقبل 2021، وتوجد العديد من التقارير الأخرى المتفائلة حول هذ التعافي.
أين تكمن أزمة الاقتصاد؟
يمكن تلخيص أزمة الاقتصاد التركي في نقاط عدة، في مقدمتها ارتفاع معدل التضخم، وبالتالي انخفاض المستوى المعيشي للطبقة العريضة من الجماهير خلال الخمس سنوات الماضية، وهو الارتفاع الناتج بالأساس عن انخفاض سعر الليرة، تزامناً مع اعتماد تركيا على استيراد معظم مدخلات الإنتاج من الخارج، وهو ما يضغط كثيراً على احتياطيات النقد الأجنبي.
ثم واردات تركيا من الطاقة والتي تبلغ حوالي 40 مليار دولار سنوياً، علاوة على الديون الخارجية الضخمة للشركات الخاصة والتي تبلغ أكثر من 70% من الدين الخارجي للبلاد، وهي الديون التي تتسبب ليس فقط في تأجيج المضاربة علي الليرة من أجل الحصول علي الدولار لسداد الأقساط والفوائد، وإنّما أيضاً تتسبب في مشاكل هيكلية وعميقة قد تؤدي إلى إفلاس العديد من الشركات في ظلّ عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية بعد انخفاض الليرة، خصوصاً تلك الشركات التي تبيع في الأسواق المحلية... كلّ ذلك فضلاً عن إهمال التوطين التكنولوجي، والاعتماد على استيراد التكنولوجيا من الخارج.
كلّ ما سبق علاوة على التوسع المحمود للنفقات العامة في مشروعات البنية التحتية الخادمة لهذه الكميات الهائلة من الإنتاج والتصدير، ترتب عليه بالطبع تزايد عجز الموازنة العامة، أجبر الدولة علي اعتماد الاستثمارات الخارجية في أدوات الدين المحلية كمصدر رئيس للعملة الأجنبية، يعمل على إحداث التوازن النقدي، وهو الأمر الذي يتحدد وفقاً لمعطيات الظروف الدولية، ويتطلب رفع سعر الفائدة بالتضاد مع توجهات الرئيس التركي نحو تخفيض التضخم.
كيف يمكن مواجهة الأزمة؟
ربما يميل كثيرون إلى اعتبار أنّ الاقتصاد التركي لا يمرّ بأزمة، وكلّ مؤشراته، في ما خلا تقلبات الليرة، في هذا الاتجاه، لكنّ الواقع أنّ السنوات الأخيرة تشير إلى انخفاض ملحوظ في المستوى المعيشي للمواطنين، الذين هم عماد التنمية وهدفها في الوقت نفسه.
واللافت كذلك أنّ هذه المؤشرات الجيدة عرضة للتقلبات لا سيما في ظل اضطراب دولي كبير، والاشتباك التركي مع العديد من الملفات، وكذلك في ظلّ تقليدية الاقتصاد التركي وابتعاده عن التطوير التكنولوجي المعتمد على الذات.
أعتقد أنّ الإدارة التركية يجب أن تحسم خياراتها في أحد الاتجاهات التي تشكل الحلول قصيرة ومتوسطة الأجل، فمثلاً استقرار سعر الفائدة المرتفع سيؤمن استمرار تدفق الأموال الساخنة، وبالتالي استقرار وربما ارتفاع سعر الليرة، مع التوجه إلى الفقراء بمبادرات لعلاج الأثر السلبي لارتفاع معدلات التضخم، والتي تجاوزت 16% في فبراير/ شباط الماضي.
أو البديل الثاني هو الاقتراض الخارجي بالمبالغ التي تعوض نزوح الأموال الساخنة، وتعمل على استقرار الاحتياطي الأجنبي، وتحقق سعر صرف يوازن ما بين المزايا التنافسية للسياحة والصادرات من ناحية، ومعدل التضخم من الناحية الأخرى.
والبديل الثالث هو التوجه الحتمي نحو آليات التمويل الإسلامي، والذي يعفي الدولة من حرج الاقتراض الخارجي التي طالما اعتبرت الابتعاد عنه أحد أهم إنجازاتها، ويعفيها كذلك من تقلبات الأموال الساخنة وأضرار سعر الفائدة على مستويات التضخم، وبالتالي المستوي المعيشي ومستويات النشاط الاقتصادي، وقد خطت تركيا في طريق التمويل الإسلامي خطوات هامة، لكنّها في أمس الحاجة نحو تسريع الخطى لتلافي مزيد من التعقيدات.
أخيراً، للأزمة الاقتصادية التركية خصوصية في الشكل والمضمون، وهي الخصوصية التي تسببت في تفاوت الرؤى حول وجودها من عدمه، وتتوقف نجاعة الحلول على التحديد الدقيق لملامح الأزمة، والتي سيترتب عليها تحديد أدوات وإجراءات التعاطي معها لجهة التوقيت والقوة، لكنّ الأهم من كلّ ذلك هو الاعتراف بوجود المشكلة مهما اختلفنا على حجمها، وحسم خيارات كيفية علاجها.
العربي الجديد- أحمد ذكر الله